الإيمان باليوم الآخر

إذا نظرنا إلى الإيمان باليوم الآخر، نقول: مد نظرك لا تقتصر على الدنيا، هل تفاخرنا أن الروس مكنوا خمسين سنة، أو الأمريكان ستين، أو مائة سنة، أو مائتين سنة، تفاخرونا بهذا! نحن نفترض لك بأنهم مكثوا في الدنيا كل الدنيا، أليس عندنا الآخرة؟! أنا لا أدعو إلى ترك الدنيا والغفلة عنها؛ لأننا متعبدون بالجهاد في هذه الحياة، متعبدون بإقامة دين الله عز وجل على هذا الوجود، متعبدون بقيادة البشرية كلها، هذا لا شك فيه، لكنني أريد أن ندرك أن مصدر العزة ليس مجرد كوننا متقدمين، أو متحضرين، أو كوننا نمتلك الصناعة، والتقنية، لا، مصدر العزة أمر وراء ذلك، فإذا كانت لهم الدنيا -جدلاً- فإن لنا الآخرة، ويجب أن نحرص نحن المسلمين على أن تكون لنا الدنيا والآخرة، هذه هي الأصول.

أولاً: قضية الجهاد: إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله عز وجل تدخل في موضوع الإيمان بالآخرة، لأن المؤمن يجاهد فيفقد آخر ما يملك في الدنيا، ومع ذلك تجده يقدم نفسه بكل بسالة وإقدام، وكثيراً ما أقف -أيها الإخوة- وأتعجب من قصة حرام بن ملحان التي رواها البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أوردها من باب الحب: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع فهذا الصحابي الجليل يطعنه رجل من خلفه بالخنجر، فيفور الدم من بطنه، فماذا صنع؟ الزوجات، والإماء، والأموال، والأملاك، والدنيا، والعمر، كلها راحت، هل فقد العزة؟ هل ندم؟ أرأيتم أي إنسان مثلاً شيوعي، أو علماني، أو بعثي، إذا فقد الدنيا ماذا بقي له؟ ما بقي له شيء لأن كل همه على هذه الدنيا، ولهذا يقول: خذ من الدنيا بحظ قبل أن ترحل عنها فهي دار لست تلقى بعدها أطيب منها أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لكن المؤمن يموت وهو يبتسم، كما قال الشاعر: آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي فـ حرام بن ملحان رضي الله عنه لما طعن استقبل الدم بيديه، ثم رشق الدم على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة الله أكبر]] وفي بعض الروايات أن الذي قتله هو جبار بن سلمى، وقيل إنه عامر بن الطفيل، المهم إن كان جبار بن سلمى، فتقول بعض الروايات: أنه بدأ يفكر في معنى: فزت ورب الكعبة، فاز بماذا؟! إن الرجل قد مات وانتهى، وهذا ليس تمثيل الآن، فالرجل يتكلم عن صدق وحقيقة، فهداه هذا إلى الله عز وجل فأسلم.

وكيف لا يكون الأمر كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين أيضاً في أحاديث كثيرة مثلاً: {موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {قاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} ما رأيك في الذي يؤمن بهذه المعاني، هل يخسر شيئاً إذا فقد الدنيا؟! ولذلك انظر كيف يسارع المؤمنون إلى الموت، وكأن الواحد منهم سيلقي حبيباً عزيزاً طالما اشتاق إلى لقائه: [[واهٍ لريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد]] يقطع إرباً إرباً وهو يبتسم، إنَّ هذه معجزة، هذه آية من آيات الله عز وجل لا يملكها شيوعي، ولا علماني، ولا حداثي، ولا يهودي، ولا نصراني، لأن هؤلاء القوم ليس عندهم غير هذه الحدود الأربعة، أو الستة، ليس عندهم شيء وراء هذه الدنيا، ولذلك يغرقون في اللذة؛ لأنه ليس عندهم غيرها، المؤمن يمكن أن يؤجل لذة الدنيا؛ لأنه يطمع في لذة الآخرة، وأنتم تعلمون أن الله عز وجل أباح من اللذات من الحلال ما يغني عن الحرام، لكن ما دام أن نساء الجنة بالشكل الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد آمنا به وصدقناه، وشهدنا بأن ما جاءنا به حق {أنه لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -الخمار والطرحة إن صح التعبير- خير من الدنيا وما فيها} من يوم خلقت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015