لم يرد الترف في الكتاب والسنة، إلا على سبيل الذم، أما في السنة: فإن الترف لم يذكر إلا قليلاً، أما في القرآن الكريم فقد ذكر الترف كثيراً بأنه من صفات الكافرين والمكذبين، فالمترفون في القرآن الكريم هم المعارضون لدعوة الرسل، وهم المعارضون للحق والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟! لأنهم يريدون أن يسترسلوا فيما هم فيه من النعيم، ولا يريدون أحداً أن يكدر عليهم شيئاً من عيشهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فالمترفون يتمسكون بعوائد الآباء والأجداد، ويرفضون دعوة الأنبياء والمرسلين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] فالمترفون الأغنياء الذين يفتخرون بأموالهم، أو جاههم أو سلطانهم أو منزلتهم أو ما وهبهم الله عز وجل، يرون أن هؤلاء الذين يدعونهم إلى الله وإلى الدار الآخرة، أنهم مجرد أفراد عاديين لا قيمة لهم ولا شأن، فكيف نحن نطيع هؤلاء؟! ولذلك يتهمون الرسل بأنهم بشر مثلهم فيقولون: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34] .
إن الرسل فعلاً بشر، لكن هل هم بشر مثلهم؟ لا! ليسوا مثلهم، هم مثلهم في الأجساد، لكنهم يختلفون عنهم اختلافاً كبيراً في القلوب والعقول والأفهام والإدراك، فهم ليسوا مثلهم كثيراً، لكنهم يقولون: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون:33] بل هم يقولون أكثر من هذا: يأكل مما تأكلون، -بعض ما تأكلون- وأنتم أحسن أكلاً من هؤلاء، هذا يأكل الخبز اليابس، أو يأكل ما يقيم أوده وأنتم تأكلون ألوان الطعام وأطايبه، وكذلك الشرب هو يشرب الماء البارد القراح، وأنتم تشربون من ألوان المشروبات الجائزة والمحرمة ما لا يستطيع هذا الحصول عليه.
فلذلك المترفون دائماً هم المعارضون لدعوة الأنبياء والمرسلين، وهذا يدلك على خطورة الترف وأثره في حياة الأمم والشعوب، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45-46] الحنث العظيم: هو الشرك بالله، وهو أكبر الذنوب، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: {أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك} .
إذاً أعظم الذنوب هو الشرك بالله عز وجل، وهو الحنث العظيم، فالذين يصرون عليه هم المترفون؛ لأنهم يظنون أنهم باقون، سبحان الله! قست القلوب، والله إن الإنسان يعجب أن الدنيا لم تشهد غيرنا، ولم تشهد قروناً وأجيالاً وأمماً عظيمة، كانوا أشد منا قوة، وأكثر أموالاً وأولاداً، ووسع الله عز وجل عليهم، بعضهم عاشوا مئات السنين، وبعضهم عاشوا في القصور الفارهة التي لا نستطيع أن نصنعها اليوم، والأموال الطائلة التي لا عهد لنا بها، ومع ذلك أخذهم الله عز وجل، فكيف يغفل الإنسان؟! كيف يظن أنه مخلد؟! {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:38-39] أنت تعلم من أين خلقت؟! هل تعلم أن أصل الخلقة التي ركبت منها تسوِّغ وتهيئ لك أنك ترزق النعيم في الدنيا وفي الآخرة بدون عمل أبداً، مخلوق من شيء معروف، خلق من ماء دافق، من مني يمنى، مخلوق من شيء ضعيف وأنت تعود إلى ضعف -أيضاً- إذاً لا قوة لك إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.