إن هؤلاء المترفين هم الذين يصرون على كفرهم، ويعارضون دعوة الأنبياء والمرسلين، ويحذرون -أيضاً- الناس من ذلك كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33-34] وهم -أيضاً- سبب هلاك الأمم والشعوب وذلك لأنهم يكفرون ويتسلطون كما قال الله عز وجل {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] في الآية ثلاث قراءات القراءة الأولى، أَمَرْنَا مترفيها، قيل معنى أمرنا: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وبالتقوى ففجروا، وبالإيمان فكفروا؛ فاستحقوا العقوبة فدمرهم الله عز وجل، نُقِلَ هذا القول عن ابن عباس وغيره، وقيل معنى أمرنا يعني أمرناهم أمراً قدرياً بالفسق والفجور، أي أن الله تعالى كتب عليهم ذلك، لما علمه منهم من أنهم متأهلون للفجور والفساد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] حتى إذا حق عليهم القول بالمعصية والفجور دمرهم الله تبارك وتعالى تدميراً، أمرنا مترفيها، وفي قراءة أخرى أمّرنا مترفيها وهذه قراءة أبي العالية رحمه الله فإنه قرأها أمّرنا مترفيها، أي جعلناهم أمراء وسلاطين وحكاماً ففسقوا في هذه القرى فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا.
إذاً إذا أراد الله عز وجل إهلاك أمة أو شعب أمّر مترفيها وولاهم وسلطهم، حتى يفسدوا ويفسدوا فحينئذ يحق القول عليهم وعلى الأمم التي جارتهم، فدمرهم الله تدميرا، لأن الله لم يهلك الظالمين فقط بل قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] القرية بأكملها حتى الفلاح والمزارع، وحتى التاجر، وحتى الكبير والصغير، والرجل والمرأة والطفل كلهم، بل حتى الحيوانات، وهذه سنة من سنن الله عز وجل: أن الله إذا أهلك قوم أهلكم عن آخرهم ثم يبعثون على نياتهم، لماذا ذلك؟ لأن الله تعالى يهلك الأمم لأنها تستسلم للمترفين، لماذا لم تقاوم؟ لماذا لم تقم بالواجب؟ لماذا لم تأمر بالمعروف؟ لماذا لم تنته عن المنكر؟ إن الله يسلط لا المترفين على الأمم؟ إلا إذا كانوا ظالمين، فإذا ظلمت الشعوب، سلط الله تعالى عليها من هو أظلم، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي نجعل بعض الظالمين أولياء، ولاة على بعض؛ بما كانوا يكسبون.
كما تكونوا يولى عليكم: لما كانت الأمم المصرية في عهد الفراعنة الأولين أمماً ظالمة فاجرة كافرة، فيها أمثال قارون وهامان وسائر المجرمين، سلط الله تعالى عليهم مثل فرعون الذي يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحي نسائهم، ويأخذهم بالقهر والغلبة والتسلط، ولما كانت الأمم فيها أمثال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، قيض الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يسوسونهم بسنة الله تعالى وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ الحق لضعيفهم من قويهم {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ففرعون، إنما كان فرعون لأنه حكم قوماً ظالمين، كما قال الله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ولذلك جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ما شأن الناس اتفقوا على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانوا يحكمون مثلي وأنا أحكم مثلك، فلذلك اختلف الناس عليَّ.
إذاً بينهم ترابط وعلاقة وشيجة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] القراءة الثالثة بالمد {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] أي كثرناهم كما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبي الدرداء، ونقل -أيضاً- عن ابن عباس وعكرمة: أن معنى أمرنا وآمرنا أي كثرنا مترفيهم، أي: أن الترف لم يكن في فئة خاصة، ولم يكن في القصور فقط، ولم يكن في الأغنياء فقط، إنما صار الترف شأناً عاماً للأمة، كما حصل في قرون كثيرة من التاريخ كما حدث للرومان -مثلاً- وكما حدث للمسلمين في الأندلس وكما حدث للأمم الإسلامية في هذا العصر خاصة، وفي الدول التي وسع الله عز وجل عليها، وأغناها بالمعادن وسواها، فإن هذا الترف لم يعد مقصوراً على جهة خاصة، أو طبقة خاصة، بل تحول الترف إلى ديدن للشعوب كلها، فأفسد الشباب والفتيات، وخرب الضمائر، وأمات القلوب، وأفقد الناس الرجولة والشهامة والمروءة والإنسانية التي كانت توجد عند الإنسان العادي، حتى ولو كان إيمانه غير قوي، وكل هذه المعاني المذكورة في الآية محتملة، فالمهم أن الترف هو سبب هلاك الأمم والشعوب، والمترفون: هم الذين يقودون ركب الأمم إلى هاوية الفساد والضياع والانحراف.