ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والصبر من الحق، فالتواصي بالحق هو أيضاً تواصٍ بالصبر، ولكن الله تعالى نص على الصبر بالذات، لأن الإنسان يحتاج إلى الصبر، فهو قد يؤمن، لكن لا يصبر على الإيمان، فيضيع أو ينحرف بعد الهدى، أو يفتر بعد الإيمان، ولهذا استعاذ عليه السلام: {من الحور بعد الكور} وقال: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} وكم من إنسانٍ عاش ردحاً من زمنه في بحبوحة من الإيمان والتقوى، والعلم النافع والعمل الصالح؛ ثم كان أمره كما ذكر الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175-176] إذاً العبرة بالاستقامة قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل آمنت بالله ثم استقم} وقال تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فالعبرة بالثبات، والعبرة بالخواتيم، والأعمال بالخواتيم.
وقد يعمل الإنسان الصالحات لكنه لا يصبر عليها، فتثقل عليه ويعجز عنها، وينوء بحملها؛ فيتخلى عنها تدريجياً، حتى أنه ربما قصر في الفرائض، أو صار لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ولا يقيم الفرائض إلا في تثاقلٍ عظيم، فهو يحتاج في الإيمان إلى الصبر، ويحتاج في عمل الصالحات إلى الصبر، ويحتاج في التواصي بالحق إلى الصبر؛ فربما أوصيت إنساناً بالحق فلم يقبل منك، فتعجز عند ذلك وتستيئس، وتترك أمره ونهيه لا! عليك أن توصيه بالصبر، وتوصي نفسك بالصبر أيضاً، فلا بد من الصبر في كل هذه الأمور كلها.
وذكر الصبر هو إشعارٌ وإرهاص بأن الطريق طويلٌ وشاق، ومليء بالأشواك والعقبات والمصاعب، وإشعارٌ أن الإنسان لا يستطيع أن يجتاز هذه المراحل الطوال إلا بالصبر، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: {ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر} .
فهذه السورة العظيمة التي دلت على هذه المعاني، هي مقياس الربح والخسارة في الدنيا والآخرة.