الاحتجاج بالخلاف من باب الهوى

هؤلاء لا يعتمدون في الخلاف على البحث عن الدليل الشرعي من آية أو حديث، ولا على تقليد عالم اعتمدوا في تقليده، وإلا لقلنا لهم: أهلاً ومرحباً، فلو أن أحداً قال: إن هذه مسألة فيها خلاف، فأنا لن أقبل كلامك، نقول: من ستقبل؟ قال: أنا سوف أذهب وأبحث المسألة وأستقصيها من الكتب، وأصل إلى نتيجة، نقول: هذا مسلك حميد فلتفعل بشرط ألا تأتي بقول لم يُسْبَقْ إليه، وأن يكون مرادك في قلبك هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد التشهي، أو اتباع الهوى، لا بأس بهذا.

وآخر قال: لن أسمع كلام فلان، نقول: من ستسمع؟ قال: أنا واثق بالعالم الفلاني وأقلده في هذه المسألة حتى قبل أن نعرف رأيه، نقول: لا بأس -ما دمت عامياً، لست من أهل البحث ولست طالب علم- أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه على أن تقلده في الرخصة والعزيمة، والتيسير والتشديد، فلا حرج في ذلك، لكن كونك تقول: بمجرد أن المسألة فيها أقوال، فأنا مأذون لي شرعاً أنني أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ما أجد أن نفسي ترتاح إليه؛ فماذا يكون معنى الشرع على هذا الحال بهذه الصورة؟ لأننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فإن تنازعتم في شيء يعني من أمور الدين، فردوه إلى الله والرسول، فما كان فيه خلاف فليس الحكم أن آخذ ما أريد، وأنت تأخذ ما تريد، الحكم بيننا هو أن نرد الخلاف إلى الله، أي إلى القرآن، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الرد إلى شخصه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.

هذا هو الميزان، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ومن لم يقبل هذا الميزان فقد بين الله حكمه بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:59] فهذا هو الميزان، أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا يختار ما يشاء.

وفي بعض المواضع نفى الله الإيمان عمن لا يقبلون ذلك، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:60] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] يعني إذا وجد حكماً شرعياً يعجبه أخذ به، وإذا وجد حكماً لا يعجبه رفضه، وقال لك: إن المسألة فيها خلاف، أنتم تتشددون وتحجرون واسعاً، وتضيقون على عباد الله، هذا لا يصلح، ثم أصبح يتكلم عليك في هذا الباب، نقول: نعم فيها خلاف على العين والرأس، ونحن لا نفرض رأياً معيناً أبداً، لكن الشيء الذي نفرضه هو الضابط الذي ينبغي التحاكم إليه، وهو قول الله عز وجل: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] .

أما التشهي في الشرع فهو لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18-19] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فما أنزل الله شيء وأهواءهم شيء آخر، وأنت مطالب بالحكم بما أنزل الله، وأهواؤهم تدعها عنك جانباً، ولا تلتفت إليها.

فالعامي أو السائل أو المستفتي إذا جاء للعالم يقول: أفتني في المسألة الفلانية، أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية؟ فهو في الحقيقة يقول له: يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي، لأن العامي أصلاً يعرف هواه.

فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس؟ هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي، بل جاء يسأل العالم عن حكم رب العالمين، أو حكم سيد المرسلين في هذه المسألة.

فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له: المسألة فيها قولان، وأنت اختر من القولين ما شئت، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه، وهو ما لم يأت ليسألك عن هواه، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتيك، إنما يريد حكم الله ورسول.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015