المرحلة الثانية: وهي أن هؤلاء الذين كانوا يقولون: لا تحاكمونا إلا إلى المجمع عليه، سينتقلون بنا بعدها ويقولون لنا حتى الإجماع نفسه فيه خلاف، فهناك من العلماء من لا يقبل الإجماع، كما هو مذهب بعض الظاهرية، حتى بعض المتأخرين من الأصوليين قد لا يقولون بالإجماع.
فنحن معذورون أن نأخذ ما نرى، خاصةً إذا تصورنا أن من الناس من لا يفرقون بين عالم قديم وعالم معاصر، فلو جاء عالم معاصر برأي ينقض إجماعاً قديماً، اعتبروا هذا العالم حجة في نقض الإجماع، ولذلك يحتج بعضهم بعلماء متأخرين، كالشيخ محمد رشيد رضا، وهم علماء أفذاذ، ولهم منزلة، ولهم آراء ناضجة، لكن لهم آراء -أيضاً- لا يوافقون عليها.
والمقصود ليس تقييم هؤلاء العلماء، لكن المقصود أن من الناس من لا يفرق بين عالم متقدم في وقت انعقد فيه الإجماع، أو كاد أن ينعقد، وبين عالم متأخر قد يأتي بقول ينقض إجماعاً سبقه، دون أن يكون هذا العالم اطلع على الإجماع، ولعلي أضرب لكم مثلاً، واعتذر عن هذا المثل، لأنه ليس المقصود المثال، لكنه وقع لي فأحببت أن أذكره، لأن قضيتنا أكبر من مجرد قضايا جزئية، كما يشير بعضهم، ويذكرون مثلاً قضية حلق اللحية أو الموسيقى، التصوير، أو وسائل الترفيه، أو غيرها من المسائل.
نقول: هذه كلها ليست هينة، لأن المراد كما قال الإمام مالك: ليس في الإسلام والدين والعلم شيء سهل، أو شيء هين {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وحتى القضايا هذه لا نحكم فيها بالأمزجة أبداً، إنما نحكم فيها بما نعتقد أنه حكم الله ورسوله.
لكن مقصودي بالمثال أن أوضح كيف يفعل بعض هؤلاء في كتاب اسمه فتح المنعم، تكلم فيه عن أشياء في صحيح مسلم وعن موضوع حلق اللحية كمثال، يقول هذا المؤلف وهو معاصر: لما عمت البلوى بحلقها في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره، خوفاً من ضحك العامة عليه، لأن العامة في بعض البلاد قد يسخرون منه لأنه ملتحٍ، يقول: لاعتياد العامة على حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصلٍ أخرج عليه جواز حلق اللحية، حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق.
انظر كيف التناقض يقول: حلق اللحية محرم باتفاق العلماء، ومع ذلك يقول: ذهبت أبحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى أعطي الذين استحوا من العامة وحلقوا لحاهم، وثيقة تبيح لهم فعل هذا العمل.
فإذا كانت المسائل التي فيها خلاف، لا ننكر فيها ولا نتكلم عنها، ثم مسائل الإجماع ذاته فيها خلاف، فلا نتكلم فيها، فلم يبق عندنا إلا مسائل العقيدة، وحتى مسائل العقيدة سيستطيع هؤلاء أن يدخلوا فيها الخلاف مع بعض الفرق الضالة، من المرجئة، والجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم، وبذلك يصبح الدين كله شيئاً عائماً سيالاً غير منضبط، لا تستطيع أن تقف منه على شيء، وقد لا يبقى إلا ما يعبر عنه البعض بأنه روح الدين ولب الدين، وما هو روح الدين؟ وأين وجدت هذه الروح واللب؟ وليت المتحدثين عن هذه المسائل من العلماء! وهيهات للعلماء أن يتحدثوا بمثل هذا الكلام، إذاً لهان الخطب، ولكن كما قيل: فلو أني بليت بها شمي خؤولته بنو عبد المدان لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني وما أعجب شأن هؤلاء الناس! حينما يصل الحال ببعضهم إلى حد فقدان المنطق، وفقدان الموضوعية بصورة لا يستحون فيها من الفضيحة، فإذا قيل لهم رَأْينا في المسألة أنها حرام، قالوا: هذا يكفر الناس، سبحان الله! وقالوا: أنت تكفر الناس، أنت تعد هذه من أركان الإسلام، فتعتبر أن من يخالفك قد خرج عن الملة.
أين وجدتم هذا الكلام؟ ألا تخافون الله عز وجل! ألا تتقون وتستحون! ألا تخشون من فضيحتكم أمام الأمة، أن تنسبوا كلاماً غير صحيح، للذي يقول: إن هذا حرام فهو لا يعتبر أن فاعله أحياناً فاسقاً، فضلاً عن كونه كافراً، لأنه قد يكون ارتكب هذا المحرم بتأويل لمقتضى دليل شرعي فيكون الذي فعله غير آثم أصلاً، فضلاً عن أن يكون كافراً، فما معنى أن يقول: هذا حرام، فيقول: هذا يكفر الناس، أو أنت تعد هذا من أركان الإسلام، أو تعتبر من يخالفك في الرأي وخارجاً من الدين، خارجاً من الملة، أين الحوار الموضوعي؟ وأين المجادلة بالتي هي أحسن؟ وأين المنطقية وأسلوب الحديث في الهواء الطلق الذي نتحدث عنه كثيراً؟! فإذا قلت لهؤلاء: قال الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لك: أنت أعلم من فلان ومن فلان حين تخالفهم؟ فإذا قلت: قال أهل العلم.
قالوا: أنت من المقلدين الجامدين، تتمسك بهذه الأقوال الجامدة وتحارب من أجلها.