من قصص بعض العباد

هناك قصة أختم بها هذه المختارات ذكرها المصنف في صفحة [91] وهي تدل على ما يقع للعباد الذين يعبدون على غير علم ولا بصيرة، وكيف يستزلهم الشيطان ويستدرجهم، بل ذكر قصتين في ذلك: الأولى قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي: يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية -وهو نوع من الطيب- فيمسح بها الإسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي: بالبطال -يعني يعتبر طلب العلم نوع من البطالة يقول: قال: فلما كان ذات يومٍ عمد هذا الرجل إلى شاربه فوضع الأذى ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها، وقالوا: فتشوا النعال، فقالوا: ما نرى شيئاً يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا، فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله سبحانه وتعالى -والشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهلٍ وضلالة- قال الشافعي: خذوه واذهبوا به إلى عبد الواحد، -هذا عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت أن ننصرف، قال: فلما خرج الشافعي دخل إليه فدعى به فضربه ثلاثين درةً، قال: هذا إنما لأنك تخطيت المسجد بالقذر وصليت على غير طهارة.

وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال له: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، ضربه ثلاثون درةً لأنه تخطى المسجد بالقذر وصلى على غير طهارة.

ثم ذكر المصنف القصة الثانية وهي أعجب من الأولى قال: أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجلٌ إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمتٍ وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -يعني من باب الهيبة من هذا الرجل لئلا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب، فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل-.

قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر، ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، عاد هذا الرجل بعد طول غياب وقد نحل جسمه، وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمعٍ قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد يعرفه لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صاحبنا الذي كنت تأتينا؟ قال: بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ قال: قد رزقني الله سبحانه وتعالى الإنابة إليه وحبب إليّ الخلوة، وأنست بالوحدة، واشتغلت بالعبادة -يعني الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما ستلاحظون- قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا فإذا هي دار فتنة وبلاء قد ذمها الله تعالى إلينا، وعابها، وذم ما فيها فلم يمكنني تغميض عيني كلتاهما معاً ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بها جميعاً -يعني أبصر بواحد مثل ما أبصر بالثنتين- فغمضت واحدة وتركت الأخرى -الأخرى يبصر بها ما لا بد منه- والثانية غمضها لئلا يرى فضول الدنيا، فقال له أبو ثور: ومنذ كم وهذه الشمعة على عينك؟ قال: منذ شهرين قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين وطهارة شهرين، انظروا إلى هذا البائس - يقول أبو ثور - قد خدعه الشيطان فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم -يعني الشيطان اختلس هذا الرجل من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـ أبو ثور نبهه إلى أن عليه طهارة وصلاة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذه المدة حيث لم يغسل ما تحت هذه الشمعة التي كانت على عينه- ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعهده، ويلقنه العلم لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى.

وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت ولكن هذا أبرز ما فيه.

أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015