الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: هاهنا أسئلة قد حرصت على ألا أجيب عليها في أثناء المحاضرة، لأن كون المحاضرة دائماً وأبداً محصورة بوقت؛ يسهل سماع الناس وحضورهم إليها، كما يسهل تداولها في أماكن بعيدة من خلال التسجيل، وإلا فليس هذا تهويناً من الأسئلة.
هاهنا مجموعة أسئلة، كلها تدور حول ما حصل في الجزائر.
السؤال الأول: يقول: انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في انتخابات الجزائر أمر مفرح ومبهج لكل مسلم، ودليل على أن الشعوب الإسلامية لن ترضى بديلاً عن الإسلام، ما رأيكم في هذا الفوز، وما دلالاته؟ وهل ستتمكن الجبهة من تشكيل حكومة؟ أم أن ديمقراطية العسكر سوف تحول دون ذلك؟ وهذا سؤال آخر يقول: سمعنا الأخبار السارة عن جبهة الإنقاذ في الجزائر، وما حصل لها من الأصوات، فهل هذا يعتبر بداية لتحرير الأرض؟ ولكن ماذا بعد ذلك؟ وهذا سؤال ثالث يقول: ما هو توجه الإسلاميين في الجزائر وتدعو لهم؟
صلى الله عليه وسلم كان في ذهني مقارنة، لكن سرعة الوقت حالت دون أن أطرحها، الجزائر قبل فترة كانت مستعمرة فرنسية كما هو معروف، وكانت فرنسا بعسكرها وقواتها مسيطرة على الجزائر، وتطارد المسلمين من مكان إلى آخر، ودفع الجزائر مليون إنسان، سفحت دماؤهم على جبالها وفي وديانها وهضابها، لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ورحل الاستعمار بعد هذا الجهد الكبير.
ولكن ماذا بعد هذا؟ بعد هذا انتهت وصاية الكفار، وجاءت وصاية المنافقين كما تكلمت عنها في المحاضرة، وتبين أنهم كانوا أخطر، لأنهم استطاعوا أن يفعلوا في الجزائر ما لم يفعله الفرنسيون، وغيروا عقول الناس وأخلاقياتهم، ولأن أسماءهم أسماءً عربية وإسلامية؛ ولأن السحنات في وجوههم كانت عربية أيضاً فقد استطاعوا أن يفعلوا في الناس، ما لم يستطع أن يفعله المستعمر الغريب البعيد، وظلت الجزائر -منذ أن تحررت من الاستعمار الأجنبي- ظلت إلى يوم الناس هذا محكومة بغير الإسلام، محكومة بقانون هو القانون الفرنسي، وبأخلاقيات هي أخلاقيات فرنسية وتقاليد فرنسية، محكومة بروح فرنسية، وإن كانت بأسماء عربية.
وهذا يؤكد لك القضية التي تكلمنا عنها في المحاضرة، ويا ليتنا نعيها، وهي: قضية تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، فالأرض تحررت، لكن تحررت من كفر فرنسي، لتقع في براثن كفر عربي.
ولذلك يسأل الأخ هل ما يقع في الجزائر بداية لتحرير الأرض؟ أقول: لعله بداية لتحرير الإنسان، لأن تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، وليست المشكلة عندنا في السلاح، ثقوا بهذا، ولا في عدد وعدة ولا في مال، القضية الأساسية عندنا غياب الإنسان، لأن الإنسان إذا وجد استطاع أن يحصل على المال وعلى السلاح، وعلى أسرار التصنيع وعلى أشياء كثيرة.
لكن في غياب الإنسان، قد تتاح له ملايين الفرص ويضيعها؛ لأنه لا يهمه أن تتقدم البلاد، ولا يهمه أن تكون البلاد تحتوي على أسلحة تقاوم العدو، ولا يهمه التصنيع، إلا مصالحه الذاتية أو الشخصية، فهو عبد لذاته أو شخصه، أو عبد للطاغوت أو ما أشبه ذلك، فهو لا يبالي بشيء.
فأقول: لعل ما يحدث في الجزائر، هو بداية لتحرير الإنسان ومن ثم تحرير الأرض، وهذا يؤكد أيضاً جانباً آخر، وهو: أن تحرير الإنسان هو المهم، فإذا نجحنا فتحرير الإنسان، خابت كل جهود الأعداء في تغيير عقلية الأمة نؤكد أيضاً قضية ثالثة، وهي: أن تحرير الإنسان أقل تكلفة من تحرير الأرض، في تحرير الأرض كان الضحايا مليون، ومع ذلك تحررت لتقع في كفر عربي، لكن تحرير الإنسان قد تكون تضحياته أقل بكثير، ولهذا الاتجاه لتغيير عقول الناس، وتغيير قلوبهم تغيير ولآئتهم، وقناعاتهم، وربطهم بالدين، ولاءً وحباً وبغضاً، وفعلاً وتركاً وأخذاً وعطاءً.
إذاً ربطهم بالدين قضية أساسية، ولذلك إذا أتينا نلاحظ أن المجتمع يتغير، وأصبح يعي ويدرك، وأحاديث الناس في مجالسهم تغيرت، وعقول الناس تغيرت، وتحليلهم للأحداث تغير، معناه: أننا نسير في الطريق الصحيح، لكن إذا كان الإنسان تجره إلى الأمام فيتراجع إلى الوراء، فيجب أن تثق أنه ينبغي أن نظل ندور حول قضية وهي قضية تحرير الإنسان من العبودية لغير الله.
الذي حصل في الجزائر بلا شك له عدة مؤشرات وعدة دلالات، أهمها: أن هذه الأمة كما قال السائل: لا ترضى بالإسلام بديلاً، وأن هذه نتائج تجارب طويلة مع الشيوعية ومع الديمقراطية ومع الرأسمالية، ومع شعارات كثيرة جداً، وفي النهاية فإن الأمة قالت كلمتها، بأن أعطت الجبهة الإسلامية أصواتاً ساحقة، وتخلت عن الجبهة الحاكمة، التي لم تحصل إلا على ستة عشر صوتاً أو أقل من ذلك.
الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، ما هو تاريخها؟ ما هي عطاءاتها للأمة الجزائرية؟ نكاد أن نقول: إن تاريخها جديد وعطاءها جديد، وأسماؤهم، كـ عباس مدني، وعلي بلحاج وبقية الأسماء -ربما نحن لأول مرة نسمعهم منذ سنة أو سنتين، إذاً على رغم أنها حديثة عهد، وتاريخها جديد، وربما ما لم تقم على أقدامها بعد، مع ذلك الأمة أعطتها هذه الثقة الكبيرة.
هذا في الواقع ليس سهلاً، هذا يؤكد لك، أن الأمة متعطشة إلى صوت الحق، متعطشة إلى كلمة الإسلام، تريد راية الدين، وتريد راية الإسلام، ويحال بينها وبين هذه الراية بوسائل شتى، ليس فقط بوسيلة القوة والسلاح والعسكر، لا، هذه إحدى الوسائل، لكن يحال بينهم وبينها، أحياناً بالتضليل، أي: بتصوير الدعاة وطلبة العلم والعلماء، وأهل الدين وأهل الإسلام بصورة تحول بينهم، وتوجد حاجزاً نفسياً بينهم وبين الأمة، ولو عرفت الأمة الدعاة والعلماء على حقيقتهم؛ لأعطتهم أكبر من ذلك، ومنحتهم ولاءً أعظم.
ولذلك يجب أن ينزل الدعاة إلى الميدان والساحة، ويتعرفوا على الناس ويعرفوا الناس بأنفسهم، ويحلوا مشاكل الناس ويساعدوهم؛ لأن هذا جزء من الدين، ولا يجوز أبداً أن نسمح لعلماني أو زنديق أو كافر أن يصورنا للناس بصورة أخرى، فيكون المسلم المصلي القائم الراكع الساجد ربما يكره أحد الدعاة؛ لأنه لا يعرف حقيقة ما يدعو إليه، أو صور إليه بصورة غير حقيقية، فالأمة إذا عرفت الدعاة، لا يمكن أن ترضى بهم بديلاً، ولا يمكن أن تعطي صوتها لغيرهم.
لكن في المقابل أيضاً: هل نعتبر أن ما حصل للجزائر نصر مطلق؟ هذا السؤال كبير، لأني لاحظت أن الكثير من أحكامنا متسرعة، فمثلاً: لما سجن مدني وبلحاج، قال الكثيرون: هذا النتيجة، انظر كيف آل الأمر وبدءوا يحللون.
ولكن هل السجن هزيمة؟ هل تعتبر هذه نهاية المطاف؟ معلوم أنه يجب أن تدرس الأعمال، وهل هي خطأ أم صواب؟ هذا لا إشكال فيه، لكن تدرس الأعمال بروح بعيدة وبنظرة بعيدة، ولا ندرسها من خلال تصرف أو عمل جزئي بسيط، فمثلاً أنا أقول: مجرد سجن بلحاج أو عباس مدني ليس هزيمة، بل العكس قد يكون نصراً، وانتصارهم في الانتخابات نستطيع أن نقول: إنه ليس نصراً مطلقاً، بل قد يكون هزيمة لماذا؟ لأنه إذا استطاع أهل جبهة الإنقاذ في الجزائر، أن يكونوا عند ظن الأمة، وأن يكونوا أهلاً للثقة، ويتحملوا المسؤولية بجد، ويضحوا في سبيل رفاهية الناس فلا تنس هذا الجانب، فهو جانب ترفيه الناس حتى في أمور دنياهم، لأن الإنسان لا يتوصل إلى الحق أحياناً، إلا بكثير من أمور الدنيا المباحة، فالناس بحاجة إلى من يثبت، أنه حتى في أمور دنياهم، فالإسلام في أمور دنياهم هو خير لهم من الآخرين، فإذا كانوا على مستوى الثقة، وكسبوا ثقة الأمة، ونجحوا ليس في الانتخابات فقط بل في إدارة ما يوكل إليهم من أعمال، وكسب مزيد من ثقة الناس، فهذا نجاح أما إذا كانت الأخرى، فهذه هي القاصمة، لأن الناس بعد ذلك إذا انصرفوا عن شيء، قد لا يكادون يقبلون عليه، وكما قيل: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل ونحن نعرف أن الأمة في يوم من الأيام منحت ثقتها لأحزاب أرضية بعثية، وشخصيات معينة، وطالما صوَّت الناس لـ جمال عبد الناصر من الخليج الثائر إلى المحيط الهادئ، وكلام طويل عريض لبيك عبد الناصر، وانتهى الأمر أن الأمة اكتشفت الأمر، وتخلت عنه وعن قياداته وزعاماته، وماتت بموته الناصرية.
وهكذا البعثية والاشتراكية، والشعارات والدعاوى الأخرى والقوميات التي يوم من الأيام صوتت لها الأمة وصفقت لها، لماذا تخلت عنها الأمة؟ لأنها جربتها وفشلت؟ ونحن نقول: الإسلام ليس تجربة، الإسلام دين الله، لكن المسلمين الذين يرفعون راية الإسلام سواء في السودان، أو في الجزائر، أو في مصر، أو في باكستان، أو في أفغانستان، ليس بالضرورة أنهم هم الإسلام، هم فئة تدعو إلى الإسلام، وقد تخطئ في اجتهاداتها وقد تصيب، وبقدر قربها من حقيقة الدين يكون نجاحها، وبقدر بعدها يكون فشلها.
ولذلك، فنحن ينبغي أن نملك قوة في التصور، بحيث لا نحكم على الأمور حكماً قصيراً مقتصراً، فإذا رأينا السجن، قلنا: هذا دليل على أنهم تعجلوا -هذا الحكم متعجل-.
وبالمقابل إذا رأينا الانتصارات، ورأينا الانتخابات، والمسلم لا يملك نفسه من الفرحة، ونحن والله تمتلئ قلوبنا فرحاً، ويكفيك أنه -كما أفاد الأخ قبل قليل- يقول: تعرب إسرائيل عن قلقها من انتصار الإسلاميين في الجزائر وهذا أمر يؤذي أعداء الله من اليهود والنصارى ويزعجهم، ويزعج فرنسا ويزعج غيرها، فكيف لا يسرنا؟ لو قال إنسان: أخرج بهذه الانتصارات فما عليه إلا أن يتخلى عن حقيقة ولائه للإسلام أما نحن فكلنا نعلن فرحنا.
لكن مع الفرح يجب أن يكون هناك دعاء حار كما أشار إليه أحد الإخوة، دعاء حار أن الله تعالى يوفقهم لأرشد أمرهم، ويأخذ بأيديهم إلى ما يكون فيه مصلحة الأمة، بحيث يكونون نموذجاً حياً للإسلام الصحيح، الذي ندعو إليه ونتطلع إليه، وأن يكونوا قدوة للشعوب الأخرى المجاورة، بحيث يرون فعلاً أن الإسلام حل أزماتهم الاقتصادية، وحل أزماتهم السياسية، وحل أزماتهم الاجتماعية، وساهم مساهمة كبيرة، في تحقيق الرفاهية لهم في دنياهم، وفي تحقيق دينهم على ما يحبون وعلى ما يصبون إليه.
هذا تعليق خفيف، ولذلك نقول: الدعاة أقل ما يجب لهم، ليس في الجزائر فقط