مثال آخر يدل على اشتغال البعض بالجزئيات: قضية الاشتغال بالماضي عن الحاضر.
ربما كثر الجدل حول ثبوت واقعة تاريخية، أي واقعة أو قصة أو معركة أو حادثة معينة، خذ على سبيل المثال: حادثة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما جرى فيها، ربما يكثر الجدل حول هذه القضية، وتؤلف فيها الكتب، وتكون فيها محاورات ومناورات ومناظرات وأخذ ورد، مع أنها قضية تاريخية انتهت، وأطراف هذه القضية قدموا إلى ما عملوا، وأفضوا إلى رب يعلم السر وأخفى، ولا يُظلم عنده أحد، فانتهت هذه المسألة؛ ولكنك تجد أننا لا زلنا نتشبث بها، ونبعثها يوماً بعد يوم، ليست القضية قضية مجرد التحقيق العلمي في حدود معقولة؟ لا.
بل قد تتحول إلى قضية مهمة، ويدور حولها صراع ربما لا يكاد يهدأ، وهناك مبالغة في التحقيق العلمي في بعض المسائل، وفي مقابل ذلك قد تجد عندنا جهلاً بواقعنا القريب الذي نعيشه، وجهلاً بما يعانيه المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، من ألوان البطش والتنكيل، والتجهيل والتضليل، والتكفير والتفسيق، والتبديع، وتحويلهم عن دينهم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أديان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد جهلاً مطبقاً بهذا الواقع.
ربما إنسان قد يبدي عناية فائقة بأحد الأحداث التاريخية، والتحقيق حولها، ومعرفة ما إذا كانت واقعة أم ليست واقعة، بل ربما ننقل بعض الخصومات التاريخية إلى واقعنا الذي نعيشه، وتصبح تؤثر فينا، وتحدد مواقفنا، وتسيرنا وتبسط رواقها علينا، مع أنها قضايا ليست قضايا اعتقادية، كقضايا الاعتقاد لا يمكن أن نقول عنها: إنها قضايا تاريخية، والخلاف حول قضايا الاعتقاد ليس خلافاً تاريخياً، بل هو خلاف أصولي اعتقادي، لكن هناك قضايا تاريخية ليس لها أي امتداد عقائدي، ومع ذلك تظل تعيش معنا، وربما سببت فيما بيننا من الخصومات الشيء الكثير.