عموم الخطاب الشرعي

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

هذه ليلة الإثنين الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (1412هـ) ينعقد فيها هذا الدرس [61] من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تلقى في الجامع الكبير ببريدة.

نعم أيها الإخوة: كنت قلت لكم أن موضوع هذا الدرس وعنوانه سيكون العوائق النفسية، وفعلاً: هذا هو موضوع الحديث، ولكني وجدت أن المقدمة التي لا بد من عرضها طويلة، وهي تعالج موضوعاً يصح أن يعبر عنه بالأمة الغائبة، وهو كالمقدمة لموضوع: العوائق النفسية، وبناءً عليه أقول: حديثي إليكم في هذه الليلة: الأمة الغائبة، أما الاستطراد في موضوع العوائق النفسية، فسيكون له حديثه الخاص المفصل إن شاء الله تعالى.

حين تقرأ القرآن الكريم، تجد أن الله تعالى خاطب الناس في أكثر من عشرين موضعاً في القرآن بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وخاطب الإنسان بلفظ الإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أما لفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ورد في القرآن الكريم نحواً من تسعين مرة، ولفظ الناس أو الإنسان يشمل كل إنسان على ظهر هذه الأرض، سواء كان عربياً أم عجمياً، ذكراً أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، من الذين كانوا موجودين في زمن البعثة، أو ممن خلقوا ووجدوا بعد ذلك.

كما أن لفظ الذين آمنوا يشمل كل مؤمن أياً كان لونه وجنسه وبلده، وأياًَ كانت مرتبته في الإيمان أيضا، قوةً أو ضعفاً أو غير ذلك، ويقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] فهذه الآية تؤكد أن المسئولية على كل إنسان، وأن الحساب فردي يوم القيامة، وهو المعنى الذي يؤكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} .

حتى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام وهو الحاكم الإمام الأعظم الخليفة وذكر في الجانب الآخر الخادم ورعايته في مال سيده، وكلكهم راعٍ وكلكهم مسئول عن رعيته.

أيها الإخوة: إن قضايا الأمة الإسلامية كلها لن تنجح إلا إذا صارت هذه القضايا هماً للجميع، يشتغل بها كل إنسان ويتعاطاها، حديثاً، ومناقشة، ومراجعة، ودراسة، ومشاركة، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب لجمهور الأمة كلها على كافة المستويات، خطاب يرفع مستوى التفكير عند الأمة، ويرفع مستوى الاهتمام عند الأمة، بحيث نكسر احتكار هموم الأمة لفئات خاصة.

فلا تعود مشاكل المسلمين أو قضاياهم أو أمورهم حكراً على فئات الدعاة يعالجونها ويخاطبونها، ولا حكراً على فئة العلماء، ولا حكراًً على أهل الرئاسة، ولا حكراً على أهل الإعلام والصحافة، لا، بل تصبح الأمة تعالج قضاياها بنفسها، ولا يشعر فرد من هذه الأمة أن هذا الهم لا يعنيه إنما يعني غيره، أو أن هذا هَمّ فلان وفلان من العلماء أو الدعاة أو الرؤساء أو الإعلاميين أو سواهم.

النص القرآني خطاب للجميع كما سمعتم، خطاب للعموم، وكذلك النص النبوي، والأصل في التشريعات القرآنية والنبوية أنها موجهة لكل الناس دون استثناء، فالقرآن لم ينزل للأذكياء فقط، بل نزل للذكي ومتوسط الذكاء وللغبي أيضاً، وكل إنسان عنده عقل يعقل به أمر الله فهو مكلف بشرعية الله عز وجل، بغض النظر عن كون عبقرياً أو كونه إنساناً بسيط التفكير سطحي النظرة.

والقرآن والسنة أيضاً لم يكونا للسادة فقط، بل نزل القرآن وصدر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخاطب السادة وعِلْيَةَ القوم كما يخاطب السوقة والعامة والدهماء من الناس، والقرآن والحديث لم يوجه خطابهما إلى الأغنياء والأثرياء وأصحاب الأموال، بل وجه إلى الأثرياء والفقراء والمتوسطين والمعدمين على حد سواء.

بل إنك تجد أن التخصيص لا يكون إلا في أمور معينة لا يدركها إلا الخاصة من الناس، فمثلاً يقول الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] .

إذاً: أنت الآن أمام قضية لها أبعاد، ولها أطراف، ولها خفايا، ولها أحكام، ولها نصوص، لا يدركها كل إنسان، فهذه نعم يردها العامة، ويردها جمهور الناس إلى الذين يستنبطونها من العلماء والخبراء بشئونها، أما ما سوى ذلك فالخطاب للجميع، بل لعلك تعجب! حتى الآيات القرآنية التي جاء فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه سلم، فحقيقة الحكم لا تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تشمله وتشمل غيره من الناس {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] .

وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خطاب للأمة كلها من ورائه، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] مع أن صدر الآية يبدأ بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق:1] إلا أنه يبدأ بعد ذلك يخاطب الأمة كلها {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] وبإجماع العلماء فالخطاب، والحكم في هذه الآية عام لجميع الناس.

الأحكام التي يختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محدودة جداً، مثل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] ومثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] إلى غير ذلك، فهي أحكام قليلة.

أما الأصل في الخطاب الإسلامي والقرآن والحديث أنه خطاب لكل إنسان، والخطاب الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو خطاب لكل مؤمن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015