وأختم هذه القصص بقصة رجل من أصحابه صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال الحنفي، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: {بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال الحنفي، وهو سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي -يا محمد خيراً- إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت} أي: أنت بين ثلاثة أمور، يقول ثمامة: إن تقتلني فأنا ذو دم، ومعنى أنه ذو دم: إما أنه مستحق للقتل لخصومته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أنه رجل عزيز شريف في قومه، فإن قتلتني فإن قبيلتي تأخذ بثأري منك ومن أصحابك، الأمر الثاني أن تنعم علي بالإطلاق، والأمر الثالث: أن تفاديني بالمال، وأيها فعلت فالأمر إليك، {فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، قال له، فقال: كذلك، فلما كان من اليوم الثالث، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أطلقوا ثمامة - انظروا إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فاطللقوه، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال بصوت جهوري: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان في الأرض دين أبغض إلى دينك، فلقد أصبح دينك أحب الأديان، كلها إلي، والله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فلقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: إن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر فاعتمر، فلما ذهب إلى مكة، علم أهل مكة بإسلامه، فقال له قائل منهم: صبوت؟ -أي خرجت من دينك وتابعت محمداً صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من أسلم صابئاً -فقال: لا ما صبوت، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة -كانت الحنطة تأتي من اليمامة إلى مكة- حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم} انظروا! هذا الرجل الذي كان بالأمس خصماً للرسول صلى الله عليه وسلم يسلم بأسلوب المعاملة، ويصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، وبلده أحب البلاد، ودينه أحب الأديان، ويصبح خصماً لقريش، يخبرهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد علا واستوسق، فلا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعلني أطلت عليكم بسياق هذه القصص، ولكن الأمر كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع إن أفضل ما بذلت فيه الأوقات هو معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى نعرف أسلوباً عملياً ندرك من خلاله كيف نعامل الناس، كيف نعامل أهلنا في بيوتهم؟ وكيف نعامل أولادنا؟ وكيف نعامل الآخرين؟ وكيف نعامل الفساق، بل وكيف نعامل الكفار؟ لكن لا من منطلق التساهل والتفريط؛ بل من منطلق الدعوة إلى الله، نفعل ذلك كله بروح الداعية الذي يريد أن يؤلف قلوب الناس على الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.