من مظاهر الضعف عند الموسوس -ضعف النفسية-: أنكِ تجدينه عاجزاً عن المقاومة، عاجزاً عن الإصرار، عاجزاً عن التنفيذ، وقد يسمع الكلام ويعزم حين يسمع الوعظ، والتوبيخ، واللوم، والعتاب، ويجد المشكلات التي تواجهه في حياته، والتي ربما تدمر حياته تدميراً، فقد يعزم عزيمة صادقة على أنه سيفعل، حتى إنه يحدثني أحد الشباب، وقد جاء إليَّ يشتكي من الوسواس وفي يديه وقدميه ووجهه احمرارٌ شديد من أثر الدلك والعرك بالماء، والبقاء على ذلك فترة طويلة، فلما حدثته وعاتبته وشددت عليه في الموضوع، يقول لي فيما بعد: كنت أتمنى أن تنهي الحديث حتى أخرج من عندك لأتوضأ الوضوء الطبيعي الذي لا تكلف فيه؛ كأنني أحس أنه لا يعيقني عن هذا الوضوء الطبيعي الذي تأمرني به إلا أن أخرج من عندك فقط، لكن لما خرجت شعرت بأن الشيطان قد أجلب عليَّ من جديد، بخيله ورجله وحاصرني، فرجعت إلى الأمور من جديد، وعدت لا أستطيع أن أفعل إلا ما كنت أفعل، فسرعان ما يخور وينهار، وتضيع النصائح الموجهة إليه أدراج الرياح عند أول موقف عملي من المواقف التي يوسوس فيها، عند الوضوء -مثلاً- عند النية، عند التكبير، عند الصلاة، عند أي أمر من الأمور التي يوسوس فيها، كأن المواعظ السابقة كلها لم تكن.
فعند أول نفخة من فم إبليس اللعين تتبخر كل هذه التوجيهات وكل هذه التعليمات، فكأن الإنسان يصب في إناء مفتوح لا يستقر فيه الماء، بل ينزل ويضيع في التراب، ولذلك فإن الموسوس -أيضاً- بحاجة إلى أن يتمالك ويتماسك ويحاول أن يقوي إرادته بقدر المستطاع، حتى يتمكن من تنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات التي أسديت إليه، وحتى يستطيع أن ينتصر على كيد الشيطان ووسواسه، وإلا فالواقع أن الناس لا يملكون له شيئاً.
أختي الموسوسة: أنت تؤمنين بالله تعالى، وأن إخبار الله تعالى صدق مطلق لا شك فيه، إذاً فاسمعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وانظري -أيتها الأخت- إلى الجن الذين نخافهم، ونهابهم، ونرهبهم، وما زال الإنس يرهبونهم منذ الجاهلية، وضعفاء الإيمان يرهبونهم، مع ذلك انظري كيف ينهارون ويتهالكون عند بعض القراء والوعاظ، وكيف يسمع لهم بكاء ونحيب وصراخ، وكأن الواحد منهم طفل يخشى من كل شيء، ويخشى من أي تهديد، فهذا هو واقعهم، هم ضعفاء وكيدهم ضعيف ومخاوفهم شديدة، ويسهل استفزازهم والاستخفاف بهم، ولذلك ذكر الله تعالى عن الجن أنهم كانوا في الجاهلية إذا استعاذ بهم الإنس كبروا وأصابهم الرهق: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وأحد الأوجه في تفسير الآية أن الإنسي من العرب في الجاهلية كان إذا نزل هذا الوادي استعاذ من سفهاء قومه، أي: من الجن، فيبيت العرب آمنين في هذا الوادي، لكن الجن يصيبهم الرهق، أي: العجب والغرور، ينتفخون في أنفسهم إذا رأوا أن هؤلاء الإنس الآن يخافون منهم ويستعيذون منهم، فيصيبهم العجب والغرور.
إذاً: نفس الوضع تعيشه الموسوسة -الآن- إلى حدٍ ما، فالشيطان حين يرى كيف ضحك بالموسوسة، وكيف صار يسخر منها، فيؤذيها وينفث في قلبها عند الوضوء، ثم يجلس من بعيد يتفرج عليها، وهو يقهقه ويضحك، ثم إذا تخلصت منه بعد جهد جهيد، بعدما تجلس زماناً طويلاً في دورات المياه، ثم تخرج بعد ذلك لتتوضأ، فإنه يبدأ ينفث في قلبها، ويضحك، وقد يأتي معه بكوكبة من أصحابه يشاهدون الموقف، وهم يقهقهون ويضحكون على هذا الإنسي المسكين، كيف سخروا به، وضحكوا منه، وسلبوا منه عقله، ويحاولون أن يسلبوا منه دينه.
فيا سبحان الله!! الجني أو الشيطان، الذي قال الله فيه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وأمر بقتاله.
كيف يضعف أمامه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويفترض أن عنده قدراً من التوكل على الله تعالى، والثقة به، والاعتماد عليه؟! كيف تسلل الشيطان؟ وكيف استقر؟ وكيف بقي هذه المدة الطويلة؟ هاهنا السؤال.
وقد تضافر على ذلك عوامل عديدة منها: الغفلة عن ذكر الله تعالى قائمةً، وقاعدةً، ومضطجعةً، وذاهبةً، وآيبةً، وداخلةً، وخارجةً، وفي كل حال.
ومنها: ضعف العلم الشرعي، بحيث إن الإنسان التبست عند هـ الأمور، وأصبح لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يعرف المطلوب منه في كثير من الأمور.
ومنها: ضعف النفس -كما أشرت.
ومنها: وجود أسباب كثيرة أشرت إليها في مطلع الدراسة الثابتة في موضوع الوسواس لا داعي لإعادتها الآن.
المهم أن الإنسان بحاجة إلى إزالة هذه الأسباب، والتخلص من كيد الشيطان، والعمل بشريعة الرحمن جل وعلا، والثقة أولاً بأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولا بد أن تؤمن الموسوسة بهذه الآية حق الإيمان، ولا بد أن تضعها نصب عينيها وتعرضها على نفسها مرة بعد أخرى، وكلما عرض لها عارض الوسواس في وضوء، أو صلاةٍ أو نيةٍ أو تكبيرٍ أو صومٍ أو حجٍ أو غسلٍ أو غيرها تذكرت هذه الآية، من الذي يوسوس لها؟ إنه الشيطان، وهذا مفروغ منه لأن الموسوس أول ما يقول: عندي وسواس، وابتليت بوسواس الشيطان -أعاذنا الله منه-.
إذاً، هو يعرف الموضوع من الأصل، هذا لا إشكال فيه من حيث الإجمال، لكن إذا جاء إلى التفاصيل نسي أنه موسوس، وبدأ يتكلم عن التفاصيل كأنه يريد أن يستبرئ لدينه، وهو في الأول يعرف أن هذا كان من الشيطان، وأن الشيطان هو الذي يدفعه إلى ذلك.
إذاً: فتذكري -أيتها الأخت الكريمة- أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وتذكري أن الشيطان ما استقر وباض وفرخ في قلبك إلا بسبب أنك استجبت له أول الأمر، وهذا لا بد أن تعرفيه جيداً.
أيضاً في هذا المجال يقول الله عز وجل حكاية عن قول الشيطان الأكبر يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] إذاً لم يكن للشيطان سلطان على الإنسان، إلا أنه دعاه فاستجاب له {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .
فالوسواس ذنب وإثم يجب التوبة منه والمسارعة بذلك والإقلاع عنه، وإن ترتب على ذلك حزن مؤقت للإنسان بسبب تركه لأمر اعتاده، فإنه يعقب هذا الحزن سعادة طويلة في الدارين بإذن الله تعالى.
أختي الموسوسة: اعلمي تبعاً لذلك أن طول بقاء الوسواس في نفسك ليس في صالحك، والوقت ليس في صالحك، كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة تقضينها وأنت في حال وسواس؛ فإن الشيطان يزداد فيها رسوخاً واستقراراً في قلبك، ويبني فيها أبراجاً جديدة، وحصوناً جديدة، وقصوراً جديدة في قلبك، فإذا حاولت التخلص منه وجدت أن القوى الشيطانية قد تغلغلت وتمكنت، وإذا كنت تقولين هذا قد حصل الآن، فالوسواس -مثلاً- معي منذ ست سنوات، فإنني أقول: وأيضاً إذا زاد الأمر عن ست سنوات كان أصعب، ومع أن الوسواس له ست سنوات، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وهذه الآية لا يزال مفعولها سارياً حتى بعد ست سنوات، أو قبل ست سنوات، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي حكم قطعي ثابت لا يتخلف أبداً.
أختي الموسوسة: واعلمي أيضاً تبعاً لذلك أن المكث في الأماكن القذرة، ومأوى الشيطان مما يزيد الوسواس في قلبك، فمع الأسف الموسوسون ربما يجلس الواحد منهم ساعتين في دورة المياه، في انتظار قطرة من بول يظن أنها تخرج، وفي انتظار أن يستكمل ذلك، ثم يتوضأ، أو يستجمر ويستنجى، ثم يعيد مرة أخرى، وثالثة، وعاشرة وهكذا يكرر.
وقد يقوم ويقعد ويتنحنح، ويتحرك ويقفز إلى غير ذلك بحجة إخراج ما في جوفه من هذا البول وغيره، ثم إذا بدأ في موضوع التطهر وإزالة النجاسة، أصابه من ذلك ما قرب وما بعد، وينسى هذا المسكين المغفل أن الشيطان يكسب منه في ذلك مكاسب عديدة منها: إيذاؤه بهذا الوسواس، وتفويت العبادة عليه، وتبغيض العبادة إليه، وشغله بأمور تضره ولا تنفعه.
ومنها: أن مكثك في دورة المياه وفي الخلاء هو في مصلحة الشيطان؛ فهذه الحمامات تقيم فيها الشياطين؛ لأنه يقيم في الأماكن القذرة، وفي الأماكن الرديئة، وفي الأماكن الخربة، وفي أماكن النجاسات والقاذورات، وفي أعطان الإبل، ومباركها.
فالشيطان يجلس وينام ويستقر -إن كان له ذلك- في الأماكن التي تناسبه وتلائمه، فإذا جاء إلى الأماكن التي يوجد فيها الخير، والذكر، والقرآن، والعلم، والحديث والصلاة، وتتردد فيها الملائكة، صاعدة هابطة، فإنه يخاف -كما أشرت- قبل قليل ويبتعد، فهو لا يستطيع المواجهة، بل يتهرب إلى هذه الأماكن القذرة، ولذلك: أولاً: لا بد من الاعتصام بالأذكار عند دخولها اعتصاماً جيداً، فتقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ويستعيذ بالله من الشياطين ذكرانهم وإناثهم، ومن مكرهم، وكيدهم، ثم يجلس في دورة المياه بقدر ما يحتاج ولا يزيد، فإن طول مكثك فيها لا شك أنه ليس في صالحك بل هو في صالح الشيطان.
إن مثل قلب الموسوس في ظني وتقديري وحسابي -خاصة إذا طال معه الوسواس- أشبه ما يكون بمجموعة من اللصوص احتلوا بلداً، وطردوا منه أهله، وهم يتوقعون أن يغير عليهم أهل البلد ليستردوا أرضهم صباحاً أو مساءً، فماذا يفعل أولئك اللصوص؟ لا شك أنهم سوف يحفرون الخنادق، وسوف يحصنون المدينة، وسوف يضعون أجهزة للمراقبة، وسوف يضعون كمائن، وسوف يبنون مباني ضخمة بقدر ما يسمح لهم الوقت، حتى يتحصنوا بها من القوة التي سوف تهاجمهم صباحاً أو مساءً، وهكذا الشيطان تقريباً، قد احتل قلبك، أو مواقع كثيرة من قلبك، فلذلك هو يتحصن ويبني له معاقل، وأسواراً وحصوناً منيعة يوماً بعد يوم، وكل الوساوس كذلك، ولهذا لا بد أن تضعي هذا في الاعتبار، وتفكري جيداً في النقطة الثانية في موضوع الوسواس التي أريد أن أطرحها الآن، وهي بيت القصيد وهي قضية كيف أعالج الوسواس؟!