Q الحديث الثاني: يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {البذاذة من الإيمان} ؟
صلى الله عليه وسلم البذاذة: هي عدم الاعتداد بالملبس؛ تواضع الإنسان في ملبسه، وبعده عن الرفاهية، والتوسع في جمال الملابس وهيئتها.
وحديث {البذاذة من الإيمان} أيضاً [حديث صحيح] أخرجه ابن ماجة في "سننه" [رقم 4118] من حديث أبي أمامة الحارثي، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" [1/9] وأخرجه أبو داود [رقم 4161] والطحاوي في "مشكل الآثار" [1/478] .
وقال الإمام العراقي: هو حديث حسن، وقال الديلمي، وابن حجر: هو حديث صحيح، وهو كما قالا.
وفي هذا الحديث: دليل على أن تواضع الإنسان في ملبسه، وهيئته، وغير ذلك، أنه من الإيمان، ولعل من المناسب أن أذكر أن للشرع في هذه الأمور؛ أمور الملابس وغيرها مسلكان: الأول: الترغيب في الزهد فيها، والبعد عن المظاهر الكاذبة، كما في هذا الحديث {البذاذة من الإيمان} .
فنقول: من تواضع في ملبسه لله جل وعلا، وبَعُد عن المبالغة في الزينة لله جل وعلا، من أجل البعد عن الكبرياء، فإن هذا من الإيمان، لكن في مقابل هذا الحديث لدينا مجموعة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، تدل أيضاً على أن حسن الملبس قد يكون من الإيمان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم لما قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فقال رجل: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال} .
فدل على أن كون الثوب حسناً والنعل حسناً مما يحبه الله جل وعلا.
ومثله ما ورد عن أصحاب السنن من طريق جماعة من الصحابة، وهو [حديث صحيح] {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أشعث رأسه، رثة ملابسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي المال آتاك الله؟ فقال: يا رسول الله، من كل المال قد آتاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فذهب الرجل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَجَّل رأسه، ولبس من أحسن ثيابه وتعطر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس، كأنه شيطان} .
إذاً: ترجيل الشعر ودهنه واستعمال الطيب وحسن الملابس وحسن النعل، هو أيضاً من الإيمان، فكيف نجمع بين هذين المسلكين؟ الجمع بينهما يكون من طريقين: إما أن يقال: إن من الناس من يصلح له هذا، ومن الناس من يصلح له ذاك، فإن الله تعالى خلق خلقه متفاوتين في كل شيء؛ في أشكالهم، في قامتهم، في أخلاقهم، في علمهم، في عقولهم، في أموالهم، في كل شيء.
فمن الناس من جبل محباً للجمال في هيئته، وملبسه، ونعله، وسيارته، وثوبه ونحو ذلك، فهذا يقال له: اعتنِ بهذه الأمور، ولكن بنية إظهار نعمة الله تعالى عليك، والتحدث بها، وبيان أن هذا لا يُعارِض الاستقامة، ولا يعارض الزهد في الدنيا، فيكون نوعاً من الدعوة إلى الله جل وعلا.
ومن الناس من جبل على الزهد في هذه الأمور، والإعراض عنها، والتعلق بغيرها، فلا يحب هذه الأمور، ولو تكلف أن يحسن ثوبه يوماً فإنه سرعان ما يعرض عن ذلك، وقد تأتيه يوماً وقد تكلف لتحسين هندامه وبزته، فلبس ثوباً جديداً، ولبس غترة جديدة مغسولة مكوية، فبعد يوم تأتيه وقد قلب المرزاب، وأصبحت الغترة طرفها عند كتفه، وأصبح ثوبه بهيئة أخرى، وكأنه قد لبسه منذ زمن طويل؛ لأنه لا يحب هذا، ولم يفطر عليه.
فيقال: {كل ميسر لما خلق له} فمن كان يصلح له هذا فليفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ومن كان يصلح له ذاك، فيفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ولا ينبغي أن يلوم هذا هذا، ولا هذا هذا.
لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى شخص قد تجمَّل ليظهر نعمة الله عليه، ويدعو إلى الله تعالى بحسن بزته، ويبين أن هذا لا يعارض الإسلام، فلا يلام هذا، ويقال: هذا إنسان متكبر! أو هذا إنسان مهتم بمظهره! كما أنك لو رأيت إنساناً متواضعاً في ملبسه، لا تقل: هذا يشوه الإسلام! وهذا يعطي صورة غير جيدة، وهذا يتظاهر بالزهد وليس كذلك، فلا يلوم أحد أحداً، ولا ينكر أحدٌ على أحد.
وهو في نظري أجود وأحسن.
الوجه الثاني أن يقال: إنه يجمع بين النصوص؛ بأن المقصود أن يكون الأمر على سبيل الاعتدال.
فليس الحث على الجمال مدعاة لأن يسرف الإنسان فيه، ويضيع وقته في تحصيله، وليس الحث على البذاذة مدعاة إلى أن يبالغ الإنسان في ذلك، فيتعدى فيه حد الاعتدال.
فيكون الجمع بين هذه النصوص بأن يقال: إن المقصود في كلا النوعين من النصوص الاعتدال والتوسط.