الصنف الثالث: من الناس من يكون قصده بالأذان وجه الله تعالى، يؤذن ليدعو الناس إلى الصلاة، يؤذن بقصد الأجر والمثوبة، يؤذن طلباً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شجر ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة} وموعوده صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر الذي قال فيه: {إن المؤذن يُغفر له مدى صوته} وفي بعض الأحاديث: {من حافظ على الأذان اثنتي عشرة سنة -وورد أقل من ذلك- فإنه يكتب له براءة من النار} والحديث صححه جماعة من أهل العلم، فيؤذن طلباً لهذا الموعود الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذنين.
ولكن تأتي الأشياء الأخرى تبعاً، فقضية الوظيفة والراتب والمسكن وغيرها أمور ليست مقصودة له ابتداءً، إنما هي تأتي تبعاً، وهذا ولاشك أنه مأجور عند الله تعالى على آذانه ومثاب، وله الوعد الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، ولا يضيره كونه أخذ شيئاً من لعاعة الدنيا ما دام ليس مقصود له في الأصل لا يضيره ذلك، لأن الأعمال كما سبق بالنيات.
وهانحن نرى أن المجاهد يخرج إلى المعركة فيقاتل فيها، يبتغي ما عند الله، ويبتغي إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، ثم تكون الغنائم فيأخذ منها، فلا يضيره ذلك، وإن كان قد ينقص من أجره، لكن لا يضره ذلك من حيث أنه يحبط عمله، كلا! بل أجره له، وبعضهم يقول: ينقص أجره بقدر ما أخذ، كما في الحديث الذي ذكر فيه {ألا تعجلوا ثلثي أجرهم} كما ورد.
لكن على كل حال مادام قصده ما عند الله، فلا يضره أن تجيء الدنيا تبعاً لذلك، وهاهم الفقهاء يذكرون -أيضا- الحج فيقولون: إن من حج بقصد أداء الحج، وفي نيته أيضاً أن يشتغل بالتجارة في الحج، فهذا لا يضره بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك وأنه جائز، يعني الإنسان إذا ذهب إلى بيت الله الحرام للحج، وفي نيته التجارة -أيضاً- فحج وتاجر هناك، فقد نقل بعض العلماء الإجماع على أن هذا جائز لا بأس به، وصح عن ابن عباس أنه في مثل هذا نزل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] فالآية نزلت في الحج وفيها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: بالتجارة، لكن هؤلاء لم يكن غرضهم التجارة فقط لا! كان غرضه الحج والتجارة مع الحج أيضاً، فهذا جائز كما ذكرت، وإن كان ينقص أجره.
إنما بعض الناس إذا حَدَثَ عنده هذا الأمر، ورأى أن في عمله الديني التعبدي الحصول على مكسب من مكاسب الدنيا، فإنه يترك هذا العمل ويُعرِضُ عنه.
فقد يترك الإمامة في المسجد، أو يترك الأذان، أو يترك الدراسة وطلب العلم، أو يترك غيرها من المقاصد الشرعية، بحجة أن هذا العمل يجلب لي شيئاً من الدنيا، وأخشى أن تكون نيتي قد دخلها شيء، وأقول: إن الإنسان ينبغي أن يدرك أن الترك والفعل كل واحد منهما يحتاج إلى تأمل وفيه مدخل للشيطان، وقد ذكر أهل العلم كـ ابن حزم وغيره أن الشيطان يأتي أحياناً من جهة تشكيكه في نيته ليترك العمل، ونقل عن عياض أنه كان يقول: [[العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك]] فإن الإنسان لا ينبغي له أن يعمل من أجل الناس، ولا أن يترك من أجل الناس وينبغي أن يدرك أن الشيطان أحياناً يأتي من جهة تشكيكه في صلاح نيته ليترك العمل الصالح، وعلى الإنسان حينئذ أن يدفع هذا الوارد أو الخاطر الذي خطر له، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويعمل على تصحيح نيته ما استطاع، ويستمر على عمله.