أما المعني الثاني في النقد، الذي هو: الثلب والثلم والعيب والتجريح، فهذا هو الغالب على هذا الزمان، الذين يعتبرون النقد -كما أسلفتُ- صورة من صورة العداوة والحقد والبغضاء، والتشهير والتأليب على الشخص المنقود، أو على الجهة المنقودة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعتبرونه نوعاً من التنقص، وكذلك هم لا ينتقدون إنساناً إلا إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه فهم لا يسعون إلى معرفة الحق من الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر، بل همهم جمع المثالب على فلان وعلان، أو على الجهة الفلانية وحشد المعايب.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم.
وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـ سعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـ سعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] .
وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره.
قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} .
وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا.
ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة.
لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك.