فالشيطان يستغل حينئذ كثرة موجودة عند الإنسان وهي حب التقليد حب الوفاء للآباء والأجداد، ونحن نجد أن هذه الغريزة يستغلها الشيطان في كثير من الأحيان، كم من إنسان يعرف الحق ويقول: بينه وبين أتباعه أنه وجد أمه وأباه وأقاربه على خلافه! ولذلك لما أسلم " بجير بن كعب " أخو " كعب بن مالك " الصحابي لما أسلم أرسل إليه أخوه كعب بن مالك يعاتبه على الإسلام، ويقول له: ألا بلِّغا عني بجيراً رسالة فهل لك فيما قلت؟! ويحك هل لكا؟ فبيِّن لنا إن كنتَ لست بفاعل على أي شيء غير ذلك دلَّكا؟ على خلق لم تلف أمًا ولا أبًا عليه ولم تترك عليه أخًا لكا يعاتبه: كيف تدخل في دين ما وجدت عليه أمك ولا أباك ولا أخاك؟! والمشركون كانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؛ والآن: كثيرٌ من الناس يضربون على هذا الوتر فإذا دعوا إلى الله ورسوله، قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، حتى ولو كانوا من المسلمين! إذا دعوا إلى أمرٍ من أمور الدين، المجتمع قد تعوّد على خلافه، سنة مهجورة، بل أحياناً قد يكون أمراً واجباً، ولكن الناس قد تركوه وعملوا بخلافه، وجدت كثيراً من الناس يرفضون هذا الأمر، ويقولون: هذا أمرٌ ما عرفناه! بل بعضهم يقول: هذا دينٌ جديد! وبعض كبار السن إذا رأى أمراً لم يعتده، قال: منذ تسعين سنة ما رأيت مثل هذا الأمر، ولا سمعت به!! ولكن ماذا إذا كنت ما رأيت ولا سمعت؟!! الإنسان لا يزال متعلماً حتى يموت! إذاً في كثير من الأحيان الشيطان يحرك في الإنسان غريزة معينة، وهي غريزة حب التقليد، غريزة الوفاء للتقاليد والعادات التي وجد عليها الإنسان آباءه وأجداده ومجتمعه، فيحاول أن يحول بين الإنسان وبين التزام الخير، بتحريك هذه الغريزة وإثارتها وأنتم تجدون الشيطان في الحديث المذكور، يقول للإنسان: تسلم وتذر دينك ودين آبائك ودين آباء أبيك! ولله در الإمام الجليل العز بن عبد السلام! حين قال له تلاميذه: يا إمام! إنَّ في مكان كذا وكذا في القاهرة مكاناً أو حانةً يباع فيها الخمر، فذهب فنظر فوجد الأمر كما أُخبر فوقف في طريق السلطان، وكان قادماً في أحد الشوارع بأبهته وصولجانه، فلما قرب السلطان من هذا الإمام الذي كان يسمى سلطان العلماء لقوته وشدة بأسه وشجاعته في الحق، قال له العز بن عبد السلام: يا فلان -باسمه المجرد- إن في مكان كذا وكذا حانةً يُباع فيها الخمر، فقال السلطان للعز بن عبد السلام: يا سيدي! هذه الحانة من عهد أبي، أي هذه من قبل أن أتولى السلطة وهي موجودة فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنَّا وجدنا آباءنا على أمة، وإناَّ على آثارهم مقتدون، قال: أعوذ بالله! أعوذ بالله! وأمر بالحانة فأزيلت من ساعتها.
فالإنسان المؤمن القوي يعتبر أنه يتقرب إلى الله عز وجل بمخالفة المألوف الذي وجد عليه الآباء والأجداد متى كان هذا المألوف مخالفاً لشريعة الله عز وجل.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثم قعد له -أي الشيطان قعد للإنسان -بطريق الهجرة-، هو الآن أسلم، في بلد شرك يريد أن يهاجر فقال له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول} .
كيف تهاجر فتذر أرضك وسماءك؟! الأرض والسماء هي أرض وسماء في أي مكان, لكن الإنسان بطبيعته -كما سبق- مفطورٌ ومجبول على حب البلد الذي نشأ فيه، وهذه بحد ذاتها لا تحمد ولا تذم.