ومنها السكينة التي تنزل حال نزول القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي تغشته السكينة، ولهذا روى أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: {بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم وكنت إلى جنبه فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، قال: فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترض فخذي -كما في بعض الروايات- من شدة ثقلها} .
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغشاه من شدة الوحي شيء عظيم حتى يتفصد من جبهته عرقاً في اليوم الشاتي من ثقل الوحي عليه، فوقعت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد، قال: {فما رأيت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فأملى عليَّ وقال: اكتب.
قال: فكتبت في كتف كان معه قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] قال: وكان في المجلس عبد الله بن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى، فلما سمع فضل الجهاد والمجاهدين قام وقال: يا رسول الله! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد كالأعمى والأعرج والمريض وغيرهم، قال: فنزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته مرة أخرى، ووقعت فخذه على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فقال: اكتب.
قال: فكتبت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] فاستثنى الله تعالى أولي الضرر، كالأعمى والأعرج والمريض، كما قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] } .
المهم: أن السكينة كانت تنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، عند نزول الْمَلَك عليه بالقرآن، وكذلك كانت السكينة تنزل عند قراءة القرآن، كما في الصحيحين، في قصة أُسيد بن حضير رضي الله عنه -وهو من كبار الأنصار- أنه كان ذات ليلة يصلي صلاة الليل في مربد، فقرأ سورة البقرة -وفي رواية في الصحيحين أنه قرأ سورة الكهف- وكانت الخيل مربوطة قريباً منه، فقرأ ورفع صوته بالقرآن -وكان حسناً جميل الصوت- فجالت الفرس وبدأت تذهب وتقبل وتدبر، حتى خشي أن تفك رباطها، وكان ولده يحيى إلى جنبه -وهو طفل صغير- فخشي عليه من الخيل، فسكت عن قراءة القرآن فسكنت الخيل، فعاود القراءة بعد ذلك، فجالت الفرس وبدأت تقبل وتدبر، حتى خشي على ولده فسكنت، فرفع صوته بالقرآن مرة أخرى، فتحركت الخيل وجالت حتى خشي على ولده فسكت، ثم صلى فرفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فوق رأسه، وإذا فيها أمثال المصابيح.
فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إنه حصل البارحة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ يـ ابن حضير اقرأ، قال: فقرأت يا رسول الله، فجالت الخيل حتى خشيت على ولدي يحيى فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى قال: فقرأت يا رسول الله، حتى جالت الفرس، فخشيت على ولدي فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى، قال: قرأت يا رسول الله حتى خشيت على ولدي فسكت، قال صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة -وفي رواية: تلك الملائكة- تنزلت لقراءة القرآن ولو قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى عنهم} فنزلت السكينة، ونزلت الملائكة لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه القرآن الكريم.
1- أسباب نزول الملائكة: وإنما كان نزول الملائكة لأسباب: السبب الأول: هو عَظَمَةُ ما قرأه أسيد سواء كان قد قرأ سورة البقرة أم سورة الكهف، فأما سورة البقرة فهي الزهراء التي لا تستطيعها البَطَلَة ولا يدخل الشيطان بيتاً قرأت فيه، وأما سورة الكهف فهي السورة العظيمة، التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها في جمعة أضاءت له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
السبب الثاني: أن القارئ كان يفهم معنى ما يقرأ ويتأثر به ويخشع له، فكان هذا سبباً وجيهاً لنزول الملائكة ونزول السكينة.
السبب الثالث: أنه كان يرفع صوته بقراءة القرآن، وكأنه -والله أعلم- كان حسن الصوت بالقرآن، كما كان أبو موسى واستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إلى قراءته، فأنصت وأُعجب بقراءته أيما إعجاب وقال له: {يا أبا موسى، كيف لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة؟! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود -صوتك بالقرآن جميل جدُّ جميل- فقال: يا رسول الله، والله لو علمت أنك تسمعني؛ لحبَّرته لك تحبيراً} أي: لزينته وحسنته أكثر مما زينته.