الوقفة الثانية: جولة قرآنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً"، قال ابن القيم في مدارج السالكين: "وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعاً"، ثم أوصلها في عدة الصابرين إلى اثنين وعشرين نوعاً، ومن هذه الأوجه والأنواع التي جاء ذكر الصبر فيها في القرآن والسنة، منها على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل:- الأمر بالصبر: كما قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ) في مواضع كثيرة والنهي عن ضده، وما هو ضد الصبر؟ الجزع ضد الصبر: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] .
إن الاستعجال ضد الصبر، قال الله تعالى: {اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فاستعجال الخطوات، والطريق، والعذاب الذي ينزل بالكافرين كل ذلك نقيض الصبر، والله تعالى أمر رسله الكرام بالصبر ونهاهم عن الاستعجال، ولهذا جاء في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقالوا: {ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام إن من كان قبلكم كان يحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يثنيه ذلك عن دينه، ويشق نصفان لا يصده ذلك عنه دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فالاستعجال نقيض الصبر.
واليأس نقيض الصبر: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] أما المؤمن فصبور مؤمن بوعد الله تعالى لا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً.
والاستخفاف نقيض الصبر، قال الله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وكذلك الاستفزاز قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء:76] .
والفتنة عن المنهج والطريق قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] .
أما الصبور فهو لا يراوح في مكانه، صابر يموت مثلما تموت الشجرة، بقوتها وقامتها وصبرها وثباتها تواجه الرياح والعواصف والأعاصير والرمال والنكبات، وهي ذات جذع غليظ ضارب في التربة راسخ لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا تنكفئ به الرياح ذات اليمين وذات الشمال.
فهو لا يجزع؛ إن مسه الخير صبر وشكر، وإن مسه الشر صبر وثبت، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {عجباً لأمرالمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} .
ولذلك جاء في الأثر [[إن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر]] فالصبر في الضراء والشكر في السراء، قال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[لو أن الصبر والشكر كانا جملين ما أبالي أيهما ركبت]] إما أن يبتلى فيصبر أو أن ينعم عليه فيشكر.
فالمؤمن لا يجزع ولا يستعجل الخطوات، ولا يستبطئ النصر، ولا ييأس من روح الله، ولا يستخفه الذين لا يوقنون فيحملونه على أن يترك منهجه، أو ييأس من طريقه، أو يشكك في دعوته، أو تأتيه الظنون وتراوح به الخواطر في قلبه، فيشك فيما وعد الله، وما وعد الله تعالى حق وصدق: {ولَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
ولا يستفز المؤمن فيستعجل طريقه، أو يبطئ في خطواته، أو يترك منهجه، أو يفتن عن شيء منه.
ومن الصور الواردة في القرآن الكريم، أن الله تعالى علق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] وكذلك علق الله تعالى به الفلاح، وأخبر أنه يحب الصابرين، وأنه مع الصابرين، وأنه تعالى جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به في كل نازلة تنزل بالعبد، مصيبة دنيوية أو دينية، أو هم أو غم أو كرب أو حزن، كما قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] .
وبين سبحانه أن الصبر مع التقوى سبب للنصر والثبات، كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيئَاً} [آل عمران:120] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {واعلم أن النصر مع الصبر} وأخبر أن الصبر جنة عظيمة من كيد العدو، كما قال الله فيما سبق: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120] فلم يتوقف كيدهم ساعة من نهار.
اليهود والنصارى والمشركون والوثنيون، وسائر أعداء الدين ما فتئوا يكيدون لهذا الدين ويحاربون أهله، ويرسمون الخطط سراً وجهارا بالتكفير والتضليل والتجويع والتفريق بين المؤمنين، لكن الله تعالى جعل الجنة والعصمة للصابرين المتقين، وأخبر أن ما حصل للأمم السابقة من التمكين والنصر والتثبيت في الأرض إنما هو بصبرهم، كما قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] .
فهؤلاء الطغاة الذين كادوا ودبروا وصنعوا وتآمروا دمر الله تعالى عليهم تدميراً، وللكافرين أمثالها: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف:137] وعلى غيرهم من الأمم المؤمنة بما صبروا، فنصرهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام من العز والتمكين في الأرض بعد البلاء والغربة وما جرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] .
وجمع للصابرين من الأمور ما لم يجمع لغيرهم، قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] ثم أخبر عن مضاعفة الأجور للصابرين وأنهم يجزون بأحسن أعمالهم: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] .
ورتب الأجر الكبير والمغفرة على الصبر والعمل الصالح: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11] وأخبر سبحانه أن الملائكة تدخل عليهم يوم القيامة من كل باب تسلم عليهم، وتهنيهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل الذي حصل لهم بصبرهم: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] .
وجعل الصبر على المصائب من عزائم الأمور الذي ينبغي على كل امرئ مسلم رجلاً أو امرأة كبيراً أو صغيراً أن يلجأ إليه ويسعى له: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] كما أخبر أن خصال الخير والحظوظ العالية لا يلقاها إلا الصابرون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] كما أخبر سبحانه أن خصال الخير كما ذكرت إنما ينالها الصابرون {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
وذكر أن الذين ينتفعون بالآيات ويعتبرون هم أهل الصبر والشكر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31] ثم اثنى على بعض عباده بالصبر؛ كما اثنى على أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} وقال عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} وقال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: {والصبر ضياء} ضياء ينير لك الظلام، ويمهد لك الطريق، ويفتح لك السدد والأبواب بإذن الحي القيوم الوهاب.