صفات المتقين

الوقفة الثانية: وهي ذات علاقة بالأولى، هي في صفات المتقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:14-19] فبيَّن المصير الذي هم صائرون إليه، وهو الجنات والعيون، وهذا مصير حق، أجمله هنا وفصله في مواضع أخرى، فذكر ما يأكلون وما يشربون، وكيف يعيشون وكيف يتحدثون، إلى غير ذلك مما هو إغراء كبير بالتشبه بهؤلاء، والتحلي بصفاتهم، وحتى بالنسبة للكافر، كما ذكرنا قبل في الوقفة السابقة، هذا الكلام عن المتقين، ينفعه لو ألقى السمع وهو شهيد، كيف ينفعه على ضوء الوقفة السابقة؟ المقصود أن تلمس أثر مثل هذه الآيات على نفسية إنسان غير مسلم، ولكنه يبحث عن الصواب، فلما يسمع: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يثور في نفسه سؤال يؤكد المعنى السابق، أنت يا إنسان الآن أمام قضية كبيرة، فالذي يقول لك إن هناك بعثاً لا يقول: الناس يبعثون، ثم يؤخذ الحق لهذا، ويؤخذ الحق لهذا، ثم يموتون مرة أخرى، وإنما يقول: إن بعد البعث محاسبة على الأعمال كلها، ونتيجة هذه المحاسبة، هي جنات وعيون للمتقين، خالدين فيها، وبالمقابل نار يفتن عليها الكافرون {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13-14] .

إذاً: فالأمر خطير وكبير، والنتيجة عظيمة، ويجب عليك أن لا تتخذ رأياً إلا بعد دراسة متأنية وعميقة، وأنت تجد هذا في كل أمور الدنيا، فتجد الإنسان إذا أراد أن يقبل على قرار كبير، مثل قرار التوظف بعدم التخرج من الجامعة، أو قرار الزواج، أو قرار موقع شراء الأرض في أي حي يشتريها، أو قرار إقامة عمل تجاري، أو مؤسسة تجارية، قد يكسب من ورائها مكاسب طائلة، فيصبح ثرياً أو مليونيراً -كما يقال- وقد يخسر فتُثْقِلُ الديون كاهله.

إذا أراد الإنسان أن يقبل على قرار خطير من هذا النوع، هل يُقبِلُ عليه ببساطة ولا مبالاة، أم يتناوله بالدراسة العميقة؟ الأولى أنه يتناوله بالدارسة العميقة، لأنه يقول: إن هذا قرار له ما بعده، إذاً نفس القضية في موضوع البعث؛ فهذه الآيات وغيرها تقول للإنسان الشاك في أمر البعث: إن موضوع البعث موضوع خطير وكبير، والمسألة يترتب عليها حسب التصور الديني والإيماني جزاء وحساب، وبعث، وجنة أبداً، أو نار أبداً، فلا تقل: ليس هناك بعث، وتمشى دون تفكير، أو تقول: لا ندري! لا، توقف وفكِّر وتأمل، وادرس الموضوع دارسة بما يستحقه، فقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يجعل المؤمن حريصاً مقبلاً على صفات المتقين للتحلي بها ونيل هذا الجزاء العظيم، ويجعل الناس حتى الكافر يعطي موضوع البعث اهتماماً وعناية يستحقهما.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:15-16] فذلك يوم القيامة في الجنة، ما أعطاهم الله تعالى من الخيرات، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل ذلك أي: في الدنيا، هذا هو الصحيح في تفسير الآية، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل الدار الآخرة، يوم كانوا في الدنيا كانوا محسنين.

وفي المسألة والآية تفسير آخر، ذكره ابن كثير وغيره عن بعض السلف، أنهم قالوا: معنى الآية: أن المتقين يأخذون ما آتاهم ربهم من الفرائض، فإذا أوجب الله تعالى عليهم الصلاة أخذوها وصلوا، فإذا أوجب الصيام أخذوه وصاموا، فإذا أوجب الزكاة أخذوها وزكوا، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل أن توجب عليهم الفرائض، وتقرر عليهم الأحكام محسنين، أي: مستعدين في عقولهم وقلوبهم للامتثال والتنفيذ والصواب الأول، أن المعنى {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] ما أعطاهم ربهم في الجنة، من النعيم، والحبور، والحور والسرور، والقصور {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل أن يصلوا إلى الدار الآخرة، في الدنيا كانوا محسنين، وكثيراً ما يصف الله سبحانه وتعالى أهل الجنة بالإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] وهناك آيات أخرى وصف الله تعالى فيها هؤلاء بالإحسان، وأثنى فيها على المحسنين مثل قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] إلى غير ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر الإحسان في حديث جبريل فقال: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وحقيقة الإحسان في اللغة: هو جعل الشيء حسناً، فالبنَّاء إذا أتقن البِنَاء قلنا: هذا قد أحسن، والزارع إذا اهتم بزراعته، وعُنى بها، وعالجها من الآفات والأمراض، وأصلحها وسقاها ورعاها، قيل: هذا قد أحسن، والأب إذا اهتم بأمر أولاده، تسميةً وتربيةً وتعليماً وإطعاماً وعلاجاً وكساءً وغذاءً، قيل: هذا قد أحسن، فالإحسان في كل شيء، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء -ثم مثل بأمثلة قريبة جداً ويسيرة- فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} رأيت كيف يكون الإحسان حتى في القتل، آخر ما يخطر في بالك أن تحسن في القتل، تحسن قتل الإنسان الذي استحق القتل، إما بحد أو قصاص أو غير ذلك- وإذا ذبحت البهيمة تحسن الذبحة -ومن إحسان الذبحة كما قال عليه الصلاة والسلام،- {وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} فهذا من الإحسان، فإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة وهي تقتل، فكيف يكون الإحسان معها قبل القتل! ولذلك دخلت امرأة النار في هرة، ودخلت امرأة الجنة في كلب، وإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة، فكيف يكون الإحسان مع الإنسان؟! بمساعدته، وإطعامه، وسقيه، وطِيْب الكلام، وإطعام الطعام، وحسن الخلق، وغير ذلك، وإذا كان هذا الإحسان مع الإنسان في أمر الدنيا، فما بالك كيف يكون الإحسان في أمر الدين! {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] كل هذه الأشياء تدخل في قوله: محسنين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015