النظر إلى الحياة الدنيا طريقان

الأول: طريق الوحي، الذي يقرر أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأن الناس مطالبون بعبادة الله، وأن بعد الدنيا آخرةً، وبعثاً، وجزاءً، وحساباً، وجنة للمتقين، وناراً للعاصين، هذا طريق الله، وهو طريق واضح، من آمن به استقر قلبه، وهدأت نفسه، وعرف طريقه.

الطريق الثاني: هو طريق الباطل، طريق الشيطان الذي ليس له قرار ولا استقرار، ولا يقوم على أساس، وإنما هو قول مختلف، مضطرب، مريج، لا يرتاب في ضلاله واضطرابه إلا من أراد الله تعالى له الضلال، فعطل عقله، وألغى مداركه، وانقلبت فطرته، فصار لا يستخدم هذه المواهب التي أعطاه الله تعالى إياها في الوصول إلى الحق، فهذا معنى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: فأنتم يا معشر المكذبين بالبعث في أمر مختلف مضطرب مريج، لا يؤفك -أي: يصرف ويقلب- عن إدراك خطئه وفساده إلا من أفك، يعني: قلب وصرفت فطرته، وإلا فالإنسان العاقل يعرف فساده، ولهذا عقب أيضاً بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] وهذا دعاء عليهم، قتلوا: أي أهلكو ولعنوا وذموا، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:11-12] يعني هؤلاء القوم أهل الشك والحيرة والاضطراب، الذين لم يهتدوا إلى طريق الله، فظلوا في الإفك والتردد والشك، كل يوم عندهم احتمال عقلي، مثل ما تجده حتى عند كبار العباقرة إذا نظرت غير مؤمنين، إذا أتيت تفكيره في مسألة الإيمان وجدته أقل من تفكير الصبيان، لأنه ما استخدم هذه المواهب العظيمة في ما ينفعه في الدار الآخرة، إنما استخدم المواهب في الدنيا، فتجده اكتشف الكهرباء، واكتشف الجاذبية، واكتشف أعماق البحار، ومجاهيل الأرض، ومجاهيل الفضاء، واكتشف في مجال التصنيع، والزراعة، والذرة، أشياء كبيرة لأنه وجَّهه عقله إليها، واستخدم طاقاته لها، لكن القضية الكبرى قضية الآخرة ما وجه عقله إليها ولهذا يُعبَّر عنه بأنه أفك عن هذا الأمر، وصرف عنه، فوقع في هذا الأمر المختلف المريج، وأصبح من الخراصين، الذين يتشككون ويترددون ويتقلبون، فكل يوم لهم رأي، وهم ساهون غافلون لا يأخذون القضية مأخذ الجد، ولم يفكروا فيها تفكيراً عميقاً، بل هم في غمرتهم وغفلتهم وسهوهم ودنياهم.

وأنت لو تأملت أحوال الناس لوجدت غالب الكافرين على هذا الأمر، فلو كان هناك إنسان مهتم بقضية الدين فعلاً ولو لم يكن مسلماً فإنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، يصل في النهاية إلى الدين، يبحث ويقول: ذهبت ودرست النصرانية فلم تعجبني، ثم ذهبت ودرست اليهودية فلم تعجبني، ثم لم أكن أعرف الإسلام، فوجدت البهائية مثلاً فأخذت كتب البهائية أظنها هي كتب المسلمين، فقرأتها فلم تعجبني فوجدت فيها تناقضاً، وجلست سنوات وأنا في حيرة وفي قلق وفي شبه اليأس، حتى هممت بالانتحار ولكني لم أفعل، حتى وقع في يدي كتاب كذا، فقرأته فوجدت فيه الهداية، فيذكر بعض كتب المسلمين التي حصل عليها بالصدفة يظن، والواقع أنه قدر ساقه الله تعالى إليه، فكل إنسان يأخذ قضية الدين بجد ويبحث عنها بتحرٍِ، يصل في النهاية، وإنما يصرف عن الدين {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:11] مشغولون بتفاصيل حياتهم اليومية، من وظيفة، وطعام، وشراب، وبرنامج يومي، ومشاريع بعد مشاريع، دراسة، ثم وظيفة، ثم زواج، ثم سفر، ثم مشاريع اقتصادية، ثم مشاريع علمية، ثم دنيوية، ثم، ثم حتى تنتهي حياة الواحد منهم وهو لم يجد وقتاً للتفكير، فهو في غمرة، أي في لهو، وغفلة، ولذلك هناك كفر اسمه كفر الإعراض، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] لأنهم ما فكَّروا أصلاً، فهذا إذا جاءه الموت صحا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:12] هذا سؤال مستهتر مستخف! فإن هذا ليس من شأن العبد، وهذا السؤال لا يطرحه إنسان جاد، فسواء كان يوم الدين بعد سنة أو بعد مائة سنة، أو ألف سنة، أو ما يعلم الله تعالى من ذلك، الإنسان الجاد يسأل: هل يوم الدين حق أم ليس بحق؟ ويبحث عن الأدلة، فإذا توصل إلى أنه الحق، أعد العدة له، وهو يعلم أنه لا يحول بينه وبين يوم الدين إلا الموت، ثم يلقى هو دينه وجزاؤه وحسابه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015