موقف آخر

موقف آخر له, قريب وشبيه بهذا الموقف, دخل على عبد الرحمن الناصر مرة أخرى بعد أن فرغ من بناء الزهراء أيضاً وقصورها, وبعد أن حصل له الموقف السابق، وقد قعد الناصر في قبة ضخمة كان يسمونها القبيبة؟ لأنها كانت خاصة بالخليفة, وقد جعل قراميدها من الذهب وطلاها بالذهب، وجعل على البناء البديع الذي لم يسبق إليه, وكان مع الناصر جماعة من الأعيان والوزراء والأمراء, فقال لهم: هل بلغكم أن أحداً من الملوك في التاريخ كله بنى مثل هذا؟ يقوله فقالوا: كلا والله يا أمير المؤمنين! ما سمعنا ولا رأينا ولا بلغنا أن أحداً بنى مثل هذا البناء, وإنك قد أتيت بما لم تستطعه الأوائل, وظلوا يقولون مثل هذا الكلام الذي تعود الأمراء والملوك والخلفاء أن يسمعوه ممن حوله, والقاضي مطرق لا يتكلم وقد طأطأ رأسه فاستنطقه الخليفة, قال: ما لك ساكت، تكلم ما رأيك؟ هل رأيت مثل هذا البناء؟ فدمعت عيونه رحمه الله وأجهش بالبكاء ثم انحدرت الدموع على لحيته وخده, وقال للخليفة بلسان واضح ولهجة صريحة قال: والله ما كنت أظن أن الشيطان يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله تعالى ومع ما فضلك به, حتى أنزلك الشيطان منازل الكافرين -عبارة قاسية غليظة جارحة- فاضطرب الخليفة وغضب، وقال: انظر ما تقول! كيف أنزلني منازل الكافرين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] فوجم الخليفة وبكى وقال: جزاك الله خيراً، وهاهنا مواقف الخلفاء فعلاً مواقف عجيبة, جزاك الله خيراً وأكثر الله من أمثالك, ووالله إن الذي قلته لهو الحق، وأمر بنقل هذه القبة التي بنيت بالذهب، وأن تعاد وتبنى تراباً كما بني غيرها من القباب, وهذه القصة ذكرها الذهبي في السير, وذكرها ابن الأثير في الكامل، وفي تاريخ قضاة الأندلس وفي غيرها من المصادر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015