إن بعضهم يخاف الرياء على نفسه, ويزداد خوفه ويتعاظم حتى يتحول إلى وسواس, وربما ترك العمل الصالح خشية الوقوع في الرياء, فهو كما قيل: فر من الموت وفي الموت وقع.
إن مقام الإخلاص الكامل هو مراقبة الله تعالى، والإعراض والانقطاع عن المخلوقين بالكلية، فلا يعمل من أجلهم، ولا يترك من أجلهم، وقد جاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- قولاً شديداً فيمن يترك العمل من أجل الناس، وقد يكون من أسباب ذلك أحياناً -وهو كثير- أن بعض الناس يتقدم للمسجد، فإذا رآه الناس خجل وخاف من الرياء, فأصبح لا يأتي إلا متأخراً، وربما تفوته الصلاة ثم يعتاد ذلك, فيصبح التبكير إلى المسجد من أثقل شيء عليه, وبعضهم يقرأ القرآن ويحفظه، فإذا رآه الناس أو أصبحوا يستمعون لقراءته أو يدعون إليه؛ خاف من الرياء فترك قراءة القرآن.
وربما يكون خطيباً أو مقرئاً للقرآن, أو معلماً، أو مدرساً، أو داعية، فيترك ذلك خوف الرياء، وهذا من الخطأ العظيم، فإن العبد ينبغي أن ينقطع عن المخلوقين، فلا يترك شيئاً لأجلهم، كما لا يجوز له أن يعمل شيئاً من أجلهم.
وربما كان من أسباب ذلك: أن العمل الذي عمله عظم في عينه، قام رجل فخطب الجمعة، أو تكلم بعد الصلاة بكلمات يسيرات، أمر فيها بالمعروف أو نهى فيها عن المنكر, فخيل إليه حينئذٍ أن هذا العمل الذي قام به عمل عظيم جليل فيه صلاح الأمة، وأن الناس تحدثوا بكلامه، وذهبوا به وطاروا به كل مطار، وأنه أصبح حديث المجالس, فلذلك دخله شيء من العجب، خاف من أثره أن يتحول إلى رياء، وما ذلك إلا لأنه لم يتعود على مثل هذه الأعمال الصالحة، ولذا الإنسان الذي من عادته أن يصلي مع الجماعة, لا يرى في صلاة الجماعة رياء ولا مظنة رياء, لكن الجديد الذي يصلي لأول مره وقبل ذلك كان متخلفاً، يخشى على نفسه من الرياء، فإذا اعتاد زال خوف الرياء من قلبه, وهكذا سائر الأعمال الصالحة إذا تعودت عليها شعرت بأنها أعمال عادية كل الناس يعملونها, وأنها ليست أعمالاً عظيمة، ولا تستحق أن تخاف بسببها على نفسك الرياء، وبعض الناس يتركون الأعمال الصالحة بسبب أن الناس تكلموا فيهم وأثنوا عليهم بذلك، والواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم {تلك عاجل بشرى المؤمن} .