أغلى إنسان وأرخص إنسان

الأمر الرابع: من المضحكات المبكيات، أن أغلى إنسان بالمقياس والمعيار الشرعي وهو المسلم، أصبح هو أرخص إنسانٍ على وجه الأرض، أما إنه أغلى إنسان فإنه يحمل لا إله إلا الله، وأنا أتكلم حينئذٍ عمن هم مسلمون فعلاً، لا عمن ينتسبون للإسلام بمجرد الهوية، أو بمجرد الميلاد، أو بمجرد الأرض التي نشئوا عليها، فالمسلم هو أغلى إنسان عند الله عز وجل، وهو أغلى إنسان في الحقيقة، لأنه يحمل كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه في هذا الواقع أصبح أرخص إنسان عند الغرب.

فالغرب -مثلاً- يغضب لأن العراق حكم بالسجن سبع سنوات على بريطاني قبض عليه متهماً بالتجسس، لكن الغرب لا يحرك ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟! لأنهم مسلمون، فالإنسان الغربي -الرجل الأبيض- له ميزانٌُ خاص، وكذلك الإنسان المسلم هو رخيص أيضاً عند المسلمين، حكاماً ومحكومين، فنحن نعلم أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات، ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن، بل لذلك نستطيع أن نقول: ربما الكلب الأوروبي، أغلى أحياناً من الإنسان العربي أو المسلم، فنحن نجد الإعانات حتى للكلاب، والقطط الأوروبية، لماذا؟! لأنها قططُُ يملكها الرجال البيض، فقد نزلت عليها أو شملتها الكرامة التي أضفوها على أنفسهم، فأصبح لها منزلة ومكانه عند حلفائهم في كل مكان، فوجدنا المساعدة لهؤلاء، ووجدنا الغضب لغضب الغربيين، أما الإنسان المسلم فلم نجد شيئاً من ذلك، اللهم إلا السب والشتيمة في أجهزة الإعلام العربية كلها دون استثناء، فالموت والقتل بالنسبة للمسلم لا شيء.

أمرُُ آخر يظهر لكم جلياً هذا الأمر: قضية الجنسية، ماذا يستفيد الإنسان إذا منح جنسية لإحدى الدول الإسلامية وماذا سيجد؟ هل سيجد الحرية التي سينشدها؟ كلا هل سيجد الغناء والثراء؟ كلا هل سيجد أن يعبد الله تعالى كما أمره الله تعالى دون أن يُضيِّق عليه أحد؟ كلا بل سيجد المضايقة، والسجن، والتشديد عليه، والمطاردة، وقد يُهدد بهذه الجنسية عند كل مناسبة، ومع ذلك هذه الجنسية في أي دولةٍ عربية أو إسلامية، ربما يكون الحصول عليها أحياناً ضرباً من المستحيل؛ لكن الدول الغربية تعلن في الصحف أن تعالوا!! ولم نكن نستغرب أن تمنح الدول الغربية الجنسية للأطباء المسلمين وهذا أمرُُ معروف، وليس سراً أن كثيرا من المستشفيات في الغرب القائمون عليها أو على عدد منها، هم من العرب ومن المسلمين، بل وأحياناً من الصالحين، ولكنهم وجدوا هناك البيئة المناسبة التي لم يجدوها في بلدانهم، فهاجروا إلى هناك حيث التكريم للإنسان من حيث هو إنسان، وحيث الإعانة، وحيث المساعدة، وحيث الرواتب، وحيث مراكز العلم التي تمكنه من المواصلة في الطلب والتحصيل في علمه الدنيوي الذي يتجه إليه.

لقد هان المسلم على نفسه، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً، ولا يري نفسه أهلاً لشيء، لا يعمل، ولا يتكلم، ولا يشارك، ولا يناقش، ولا يُفكِّر، ولا يسمع، ولا يبصر، ويرى أنه قد كفي، وأنت اليوم تجد المسلم العادي -ودعونا من البعيدين- دعونا نتكلم في محيط الحضور في هذا المسجد، ربما تجد أفكار البعض يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟! إذاً هو أقنع نفسه أنه لا يسمع، وأيضاً لا يبصر، يقول: لماذا أشاهد الأحوال والأحداث والأوضاع والأمور وأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟! فأقنع نفسه أنه لا داعي لأن يبصر، وهو لا يفكر أيضاً، لأنه يرى أنه لا يوجد فائدة، وأن الأمور كلها كما يعبر البعض: خربانة، ولا فائدة للتفكير، إذاً لا داعي لأن أفكر، ولا يعمل شيئاً لأنه يقول: ليس بيدي حيلة والشكوى إلى الله.

وهكذا هان الإنسان على نفسه، الإنسان الذي كرّمه رب العالمين من فوق سبع سماوات، وأنزل في كتابه آيات بينات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .

هان الإنسان المسلم على نفسه، حتى أصبح يرى نفسه ليس أهلاً، لشيء وليس عليه أن يفعل أي شيء، فلمّا هان على نفسه، هان على غيره، هان على الحكومات، فأصبحت أي حكومة لا ترى حرجاً في أن تسوم شعوبها سوء العذاب، وتضطهد من شاءت، وتسجن من شاءت، وتعذب من شاءت، وتقتل من شاءت، لأنها دجنت هؤلاء، وزرعت الذل في قلوبهم، وصدورهم، فأصبح الواحد منهم يمشي خطوة إلى الأمام، ويلتفت إلى الوراء، يبحث عن الرقيب، يخاف من كل شيء، يخاف من ظله، يخاف من الكلمة، يخاف من زوجته أحياناً، لماذا؟! الذل باض وفرّخ في صدورنا، الجبن الهلع، أصبح الواحد يخشى من كل شيء، يخشى من الوهم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .

أصبحنا نخشى من رجل المباحث، ونخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا، ونخشى من اليهود، ونخشى من النصارى، ونخشى من كل أحد، وأصبح الواحد ربما إذا خلى بنفسه تكلم، أو بخاصته وأصدقائه من الناس، فهو ربما يملك فكراً سليماً، وربما يتكلم، ولكنه بعد ذلك يغلق فمه، ويرى أن من أغلق عليه فمه فهو آمن، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه، فرأت أن هذه الشعوب التي قبلت الذل، والخضوع، والخنوع، ودجنت، وهجنت، وتربت على أساليب الخصم، أنها جديرة بألوان الاضطهاد، ولعل أقرب مثال أسوقه لكم العراق، شعب مكون من ثمانية عشر مليون إنسان، من أقوى الناس عبر التاريخ، وأشد الناس برأسه، وأكثرهم عناداً، ومع ذلك تمكن هذا الطاغوت، أكثر من عشرين سنه من رقابهم، لم يترك أسلوباً من أساليب الاستدلال، والقتل، والسجن، والتعذيب، والتشريد، والاغتيال، إلا مارسه.

ومع ذلك لا يزال الرجل -تتكلم التقارير الغربية، بل حتى التقارير العربية، بل حتى شهود العيان الذين جاءوا من هناك، أن الرجل- تتدعم وتتقوى مكانته يوماً بعد يوم في أرض العراق، ولذلك الغرب أصبح يتحرك في منطقة العراق، كما لو كان في منطقة يملكها هو، فاليوم يجعل منطقة في بلاد الأكراد محمية، لا يستطيع الطيران العراقي أن يحلق فيها، وغداً بل اعتباراً من الليلة سوف تكون منطقة الشيعة أيضاً منطقة محمية، من الذي يحميها؟ تحميها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، ونحن نقول: نعم، حاكم العراق استغل قومه، واستخفهم فأطاعوه، ولكن الغرب أيضاً رأى أن الأبواب مشرعة أمامه، لأن هذه الشعوب التي لا تقدم ولا تؤخر، جديرة بأن يمارس الجميع ألوان الخسف والاستدلال، وكل هذه من المضحكات المبكيات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015