الأمر الأول: تحديد المبدأ الذي قامت ووجدت عليه والذي تقاتل من أجله ألا وهو الإيمان، وإذا كان المبدأ الذي نقاتل من أجله هو الإيمان فعلاً فإنه لا خوف علينا، كيف نخاف من هزيمة والله عز وجل يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فالنصر في الدنيا للمؤمنين، وكذلك النصر في الآخرة يقول عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] .
إذاً فالنصر حليف المؤمنين، وإذا كانت الأمة قامت وقاتلت من أجل الإيمان فإن هذا الإيمان هو الذي يضمن لها بإذن الله عز وجل النصر.
فلابد أن نقاتل من أجل المبادئ لا من أجل المصالح، فيكون القتال من أجل الدين والعقيدة، ومعنى هذا أننا حين نقاتل لا بد أن نشعر أننا أمة مجاهدة في جميع الظروف والأحوال، أمة تشعر بأنها أصلاً ما صارت أمة لأنها أمة عربية -مثلاً- أو لأنها أمةٌ في بلدٍ معين، أو لأنها تنتسب إلى عرقٍ معين، إنما صارت أمة لأنها تدين بدينٍ معين، وتعتقد عقيدة خاصة، ومستعدة أن تموت من أجل هذا الدين وهذه العقيدة، ولسان حالها يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أيٍ جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ فحينئذٍ تدخل هذه الأمة المعركة بسلاح الإيمان، وتكون أمة عقائدية لم ترتع في النعيم وتَعْم من الشهوات وتخلد إلى الترف والراحة وتطمئن إلى ما هي فيه، ولم تنس الهدف الذي قامت من أجله، وهو هدف الدعوة إلى الإيمان، ولهذا كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب كما علمتم -مثلاً- في معركة بدر لما احتدمت المعركة أو كادت أن تقوم؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم على حالٍ معين، ما هي تلك الحال؟ وهو زعيم الأمة وقائد المعركة الحقيقي وأكبر رأس للمسلمين وأكبر قائد لهم، انظر كيف كانت الحال التي يعيشها صلى الله عليه وسلم عند قيام المعركة، لم يأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب الطبول، ولا أن ترفع أناشيد وطنية -مثلاً- ولا لافتات ولا شيء من ذلك، إنما دخل صلى الله عليه وسلم في العريش الذي بنوه له ورفع يديه إلى السماء يبتهل ويبكي ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، وظل يدعو ويبتهل إلى الله عز وجل حتى سقط رداؤه صلى الله عليه وسلم عن منكبه من شدة ابتهاله ورفعه يديه إلى السماء، حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجزٌ لك ما وعدك} .
فهي في حال الحرب هكذا حالها، وهكذا شأنها شدةً في الإقبال على الله، وصدقاً في التوكل عليه، وإقبالاً للقلوب إليه، وبراءة من الحول والقوة إلا من حوله جل وعلا وقوته وتوبةً نصوحاً له، ليست توبةً باللسان، بل توبة حقيقية تظهر آثارها في الواقع.
هذا كان حالها في شأن الحرب، لكن في حال السلم كيف كانت؟ هل كانت أيضاً أمة رخوة مترفة ضائعة، أمة قد غرقت في النعيم، ورضيت بأن تسكن في المسكن المرتفع والقصر الفاره وتركب السيارة الفخمة وتأكل من أطايب الطعام وتحضر المباريات الرياضية -مثلاً- وتسمع الأناشيد أو الأغاني العاطفية ويكفيها هذا في حياتها أبداً؛ حتى في حال السلم كانوا يشعرون بأنهم في حالة مرابطة دائمة.
ولعلي أضرب مثلاً واحداً لهذا أيضاً وهو في الصحيحين، وهو قصة عمر رضي الله عنه التي يرويها عنه ابن عباس، يقول عمر رضي الله عنه: [[كنت اختلف أنا ورجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، يقول: فإذا نزل جاءني بالخبر -خبر الوحي من السماء- وما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث في المدينة، وإذا نزلت أنا أتيته بخبر ما نزل من الوحي وما حدث في المدينة، قال: فطرق عليَّ يوماً الباب طرقاً شديداً فخرجت إليه فزعاً مذعوراً فقلت: ما شأنك يا فلان؟ قال: حدث اليوم أمرٌ عظيم.
قلت: ماذا؟ هل جاءت غسان؟ قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لحربنا وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً]] .
إذاً كان المسلمون إما في الحرب أو ينتظرون عدواً يغير عليهم، لأنهم يعرفون أن مقتضى اجتماعهم على عقيدة الإيمان يعني أنه لابد أن يتنادى الأعداء لحربهم، ولهذا حتى في حال السلم كان الواحد منهم إذا طرق عليه الباب طرقاً شديداً ماذا يتصور؟ الواحد منا -اليوم- لو طرق عليه الباب، وشعر أن الطارق منزعج، لقال: ربما قتل ولدي، أو ربما دهس، أو ربما صُدِمَتْ السيارة، وربما كذا، وربما كذا، فتصوراتنا قريبة جداً ومحدودة، لكنه لما طرق الباب عليه طرقاً شديداً تصور أنه ربما تكون غسان والدول التي كان المسلمون يتسامعون أنها تنعل، وتعد العدة لحربهم أنها قد قدمت وأنها على مشارف المدينة، هذا أول ما بدر إلى ذهن عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له أخوه الأنصاري: [[كلا.
بل طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه]] فالمهم أن هذه الأمة منذ وجدت أمة ميزتها أنها ذات هوية وعقدية واضحة، وهذه مشكلة كبيرة أن ينسى الناس عقيدتهم أو هويتهم التي اجتمعوا من أجلها ويغفلوا عن ذلك.
يا إخواني! حتى الأمة التي اجتمعت على عقيدة منحرفة إذا أخلصت لهذه العقيدة فهي أقرب إلى النصر من أمة لها عقيدة صافية، لكنها قد نسيتها وغطى الغبار عليها، فأي مجموعة تجتمع على عقيدة أو على مبدأ -حتى وإن كانت منحرفة- تضحي في سبيلها، نحن نعلم أن هناك من قتل -مثلاً- من أجل يهوديته، وهناك من قتل من أجل نصرانيته، وهناك من قتل من أجل شيوعيته، وهناك من قتل من أجل باطنيته ورافضيته، فكذلك ومن باب أولى ينبغي أن تكون للمؤمن كفرد ولأمته ولمجتمعه ودولته هوية واضحة لا غبار عليها؛ وهي أننا أمة اجتمعت على الإيمان والعقيدة الصحيحة، فمن أجلها نقاتل ومن أجلها نسالم، وهي التي تحكم جميع تصرفاتنا ولا نكتفي بأن نعطي العقيدة كلامنا الطيب وألفاظنا الجميلة وخطبنا الرنانة.
هذا لا يكفي، لابد من هذا ولابد معه أن تكون العقيدة واقعاً يهيمن على جميع تصرفات حياتنا.