عامة الناس

القسم الثاني: هم من يمكن أن نصفهم بالعامة، وحين أقول العامة، لا أقصد فقط الذين لا يقرءون ولا يكتبون، بل قد يكون العامي طبيباً -مثلاً- في مختبره أو معمله، أو مهندساً أو مسئولاً وعالماً في فنه، لكن في مجال الأمور الشرعية لم يتلق علماً، يقول: في المجال الشرعي ليس عندي علم، أنا أعتبر نفسي عامياً في المجالات الشرعية، في فني قد أكون مجتهداً في علمي، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، هذا الإنسان هكذا يقول عن نفسه.

وقد يكون العامي إنسان لم يتلق العلم بأنواعه، فهذا العامي ما موقفه؟ في حدود علمي ومعرفتي أن هذا العامي فرضه وحكمه التقليد، أن يقلد من يثق به وبعلمه من الأحياء أو من الأموات، الممكن أن يقول: أنا سوف أُقلِّد عالماً من العلماء أقلد -مثلاً- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الألباني أو فلان أو علان، أي عالم معتبر من المسلمين يقلده فله ذلك.

لكن نقول لهذا العامي: واجب عليك أن تختار من سوف تقلده في دينك، وفق ضوابط شرعية، فلا تقل: إني أختار فلاناً لأنه -مثلاً- سمح، ويوسع علينا في القضايا فقط، لا، هذه القضية ليست قضية أمزجة وأهواء ورغبات؛ لكن العامي يختار من يعتقد في قلبه أن آراءه أقرب إلى حكم الله ورسوله، فيقلده في الحق.

وهل يلزم العامي أن يسأل على الدليل أم لا يلزم أن يسأل؟ إن سأل العامي عن الدليل فحسن، إذا كان يستطيع أن يسأل عن الأدلة ويفهما، لكن كثيراً من العامة لا يفقه الدليل، ولا يميز بين الآية والحديث، ولا يميز بين الحديث إذا كان موضوعاً أو من صحيح البخاري، ولو قلت له: هذا الحديث في صحيح البخاري لا يدري ماذا يعني صحيح البخاري فهو لا يفقه من هذا شيئاً.

ولذلك نقل ابن قدامة الإجماع على أن العامي فرضه التقليد، ويقول الأصوليون: العامي مذهبه مذهب مفتيه، فإذا سأل عالماً يثق بعلمه ودينه، وجب عليه أن يلتزم بفتواه التي أصدرها، وهذا العمل هو الذي عليه المسلمون منذ عهود الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.

حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه جابر وابن عباس وغيرهم، في قصة صاحب الشجة، لما ذهب مجموعة من الصحابة في سرية، فأحدهم أصابته شجة في رأسه ثم أجنب، فسأل الصحابة: ماذا أصنع؟ لأنه إن اغتسل قد يضره الماء، فأمروه بالاغتسال، فاغتسل ومات.

فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يقول بيديه هكذا، وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة فمسح بها وجهه وكفيه} .

وجه الدلالة من الحديث: أن هذا الرجل الصحابي سأل الصحابة، وبالتأكيد ما أعطوه دليلاً معيناً في هذه المسألة! ولذلك قال: الرسول عليه السلام: {قتلوه قتلهم الله} وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وجههم بقوله: ألا سألوا إذا لم يعلموا، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فالعامي ومن في حكمه يسأل أهل الذكر -أهل العلم- فإن كان يستطيع أن يفهم الأدلة سأل عن الأدلة، وإذا كان لا يستطيع أن يفهم؛ فإنه يكتفي بالسؤال عن الحكم.

وأذكر أن أحدهم -عامي وإن كان يدرس الطلاب ويتصدر لهم في علوم معينة- كان يجلس أمام الطلاب ثم يقول: سمعت يوماً من الأيام كلمة لا أدري أهي آية أو حديث أو مثل أو حكمة؟! فمثل هذا لا معنى لأن تقول له اسأل عن الدليل، إذ لو أتيت له بآية ظنها حديثاً أو العكس ولو أتيت بحديث موضوع التبس عليه، ولو أتيت بحديث صحيح لا يدري عنه؛ فلا معنى من تكليفه بأمر لا جدوى ولا معنى من ورائه.

إذاً: هذا هو موقف العامي، وكذلك الموقف لطالب العلم أو القادر على البحث في أي مسألة، والوصول إلى القول الراجح بالدليل، في موضوع اختلاف أهل العلم، ولا أريد أن أطيل في المسألة أكثر من ذلك، فأترك بقية الحديث -إن شاء الله- كما وعدت إلى فرصة أخرى إن أمكن ذلك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015