الرفاهية وتيسير العيش

فمثلاً: نحن ننظر اليوم إلى الرفاهية المادية والرخاء المعيشي الذي يعيشه طالب العلم، ونجد أن طالب العلم قد كفي كثيراً من الجهد في طلب الرزق، وأصبحت الأمور ميسرة لديه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، بصورة لم تكن متيسرة لطلاب العلم في أي عصر مضى.

وعلى النقيض من ذلك كان علماء السلف رضي الله عنهم يلاقون المشاق والصعاب في حياتهم بسبب ضيق ذات اليد.

ولعلي أكتفي بالإشارة إلى القصة المعروفة التي حدثت لأربعة من كبار الأئمة والعلماء، وهم محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومحمد بن هارون الروياني، فقد كان هؤلاء العلماء الأربعة ممن جمعتهم الرحلة وذهبوا إلى مصر في طلب العلم، فهناك أصابهم من شظف العيش ما أصابهم حتى كانوا يبيتون الليالي الطويلة بلا غداء ولا عشاء.

حتى إنهم اتفقوا على أن يضربوا القرعة فيما بينهم ومن وقعت عليه القرعة فإنه يذهب ليسأل لهم طعاماً، فلما أداروا القرعة وقعت على ابن خزيمة -رحمه الله- فما بالك إمام الأئمة كما يسمى ابن خزيمة صاحب المصنفات الشهيرة سوف يضطره ما يلقاه من ضيق ذات اليد إلى أن يسأل غداء أو عشاء له ولأصحابه؟! فكأنه رحمه الله استثقل ذلك الأمر، وقال: دعوني حتى أصلي صلاة الخيرة، أي: صلاة الاستخارة، فذهب يصلي ركعتين، ولعله دعا الله تعالى فيها، فما انتهى من صلاته إلا والباب يطرق، وإذا برسول من عند الأمير يقول: أين محمد بن نصر المروزي؟! فقال: هاأنا! فأعطاه خمسين ديناراً ثم قال: أين الروياني؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، ثم قال: أين محمد بن جرير الطبري؟! فأعطاه خمسين ديناراً، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، وقال: إن الأمير كان نائماً فرأى في المنام خيالاً يقول له: إن المحاميد قد طووا كشحهم من الجوع! فاستيقظ وعرف أن المقصود هؤلاء الأئمة الأربعة؛ لأن كل واحد منهم اسمه محمد، فأرسل إليهم ذلك، وسألهم بالله إذا انتهت واحتاجوا أن يبعثوا أحدهم إلى الأمير ليأخذ مثلها.

وما من عالم من العلماء المشهورين إلا ومرت به مواقف تشبه هذا الموقف وقد تزيد عليه، فلم يكن لدى أولئك العلماء من سعة ذات اليد وتوفر هذه الأمور الضرورية ما هو موجود لدى طالب العلم اليوم.

كذلك لم يكن لديهم من توفر وسائل الاتصال، فقد كان الواحد منهم يضطر إلى الرحلة من الحجاز إلى مصر أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق في طلب حديث واحد، وقد يرحل رحلات عدة في طلب حديث واحد، ولهم في ذلك قصص وطرائف ويمكن أن تراجعوا مثلاً كتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي أو غيرها.

وأما اليوم فإن وسائل الاتصال أصبحت ميسرة؛ فإن الإنسان عندما يريد السفر يستطيع أن يقطع آلاف الأميال في ساعات وبكل راحة وهدوء، وخلال سفره يستطيع أن يستثمر وقته في قراءة، في طلب علم، في مراجعة، في حفظ، في أي أمر من الأمور، وقد لا يحتاج إلى السفر في كثير من الأحيان لتوفر وسائل الاتصال الأخرى أيضاً، فهذه ميزة متوفرة اليوم لم تكن متوفرة من قبل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015