فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها.
فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره.
فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهداً يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ……… إلى آخر ما قال.
وأبيات كثيرة منها: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع.
حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة.
وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها.
ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني.
وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينزل بعلمه في واقع الحياة.
مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم.