ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.
فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.
فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.
أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.
فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.
وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.
إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.
هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.
والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} .
ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.