من صفات الربانيين مخالطة الناس

من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى، والتخلق معهم بالخلق الفاضل، لقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] تعلمون من؟ تعلمون الناس، وكيف تعلمونهم وأنتم في أبراجكم العاجية؟! وكيف تعلمونهم وأنتم في مكتباتكم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم تغلقون أبوابكم في وجوههم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم؟ هذا لا يكون.

إذاً لابد من مخالطة الناس، وفي حديث وهو صحيح عند أصحاب السنن عن ابن عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .

إذاً: لابد من مخالطة الناس، مخالطة فيه الاقتصاد، يعطيهم قدراً من وقته، نحن لا نقول للعالم: دع أعمالك، وعلمك، ومشاغلك، وأمورك، وتفرغ للناس، هذا لا يكون ولا يطالب به أحد! بل هو مما لا يستطاع، لكن لابد أن يخصص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى، ويتفرغ فيها لأمورهم وهمومهم وشئونهم.

ومن عجيب وبديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله؛ أنه قسم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف، قال: من الناس من مخالطته كالغذاء، مثل الطعام الذي تحتاج إليه بين وقت وآخر كالغذاء، وهذا هو العالم الرباني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ولكن لتستفيد وتمتح من علمه.

الثاني: من مخالطته كالدواء، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، وهذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك في مشاورة أو أمر أو ما أشبه ذلك، أو تريده في أمر من أمور الدنيا فهذا كالدواء، ومن الناس من مخالطته كالداء مثل المرض، والمرض كما تعلم أنواع: من الأمراض مرض عضال لا يشفى منه الإنسان، ومن الأمراض مرض مثل وجع الضرس، وهذا بمجرد ما تقلع هذا الضرس يزول المرض، وهذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول، فإذا غادرته زال الألم؛ فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم.

ومن الأمراض، أمراض الحمى التي لا تكاد تفارق الإنسان، ومن ذلك -مثل ما ذكر- مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد، ولا هو بالذي يسكت فيستفيد هو، فلا يستفيد ولا يفيد.

ومن الناس من مخالطته هي الموت بعينه، وهو الإنسان الذي يضرك في دينك، إما بضلالة، أو ببدعة، فتبين بذلك أن مخالطة الناس أربعة أصناف: منهم من هو كالغذاء، ومنهم من هو كالدواء، ومنهم من هو كالداء، ومنهم من هو الموت، فعليك أن تختار لنفسك وتعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها، يكثر فيها القيل والقال، والغيبة، والمجاملة، والتصنع، وربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة، والمفارقة، واكتشاف العيوب، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة، ولهذا جاء في حديث روي مرفوعاً عند الترمذي وغيره، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه، أنه قال: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} اقتصد في الحب، والبغض، والمخالطة، والعزل.

إذاً العالم الرباني ليست مهمته التعامل مع الكتب -مثلاً- فقط فهذه وظيفةٌ سهلة، ولكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز وجل وتوجيههم، ومشاركتهم في آلامهم، ومشاكلهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأن يكون قريباً من نفوسهم وقلوبهم، ولا يجوز أن تخلو الساحة من العلماء العاملين، العالمين، المخلصين؛ لأن خلوها أتاح الفرصة للأشرار، الأشرار الذين رفعوا يوماً من الأيام لواء الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه بتحرير المرأة، فأفسدوا نساء المسلمين باسم الدفاع عن المرأة، ولماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماء العاملون المخلصون؟ فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلم أو ضيم يقع عليها، دفاع بالشرع لا بالهوى، ويكسبون المرأة إلى صف الإسلام والمسلمين.

الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال والنشء، وأعدوا لهم البرامج والكتب وغير ذلك، فربوهم على غير هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل العلماء العاملون المخلصون، أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم؟ حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح، منهج الكتاب والسنة.

الأشرار: الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال، والدفاع عنهم: يا عمال العالم اتحدوا، ورفعوا هذه الراية فضلوا وأضلوا، ولا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجة، وأصح منهجاً من حملة الكتاب والسنة لو تصدوا لهذا واهتموا به، ودافعوا عن حقوق العمال بالحق لا بالباطل.

الأشرار: الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس، فتبعهم بذلك الفقراء {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] ولماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشئون الناس من الفقراء والعمال والمظلومين وغيرهم؟ ولماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين، ويبقى العالم منعزلاً في بيته أو في مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خير أو شر، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطها وأي شيء تكون؟ بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية، فتظهر السخرية به في التلفاز، أو تظهر السخرية به في كاريكاتير ينشر في جريدة، أو تظهر السخرية به في مقرر مدرسي؛ فلا يجد العالم من يغضب له، لماذا؟ لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار، وإلا فالناس في كل بلاد الإسلام عندهم عاطفة دينية، ولو أن أحداً تناول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوجدت الغضب، لماذا؟ لأنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فدل على أن أصل العاطفة الدينية عندهم موجود، ولكنها تحتاج إلى بعث، وإلى إثارة، وإلى تحريك، والذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس؛ متى أقام الجسور بينه وبينهم.

إذاً لابد من المخالطة على منهاج النبوة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015