من المشاعر: الندم على ما فات، ووالله لنندمن على ما فات؛ إن كنا محسنين لنندم أن لم نكن ازددنا إحسانا، وإن كنا مسيئين لنندم أن لم نكن أقلعنا ونزعنا وتبنا إلى الله عز وجل، ولكن انظر كيف ندم الصالحون.
عبد الله بن عمر رضي الله عنه ندم عند الموت يقول: [[ما آسى من الدنيا على شيء إلا على ثلاثة أحدها: ظمأ الهوا جرا (صيام كان يصومه ولم يعد يصومه) ومكابدة الليل، ومراوحة الأقدام بالقيام لله عز وجل ولم يقاتل تلك الفئة الباغية التي نزلت]] ولعله يقصد الحجاج ومن معه، وهذه هي الثلاثة التي ندم عليها من الدنيا.
ودخل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أبي هاشم بن عتبة وهو ضعيف فبكى أبو هاشم بن عتبة فقال له معاوية رضي الله عنه: ما يبكيك أوجع يشئزك -يعني يشدك- أم على الدنيا تبكي فقد ذهب صفوها وبقي كدرها، فلم يعد هناك ما يوجب أنك تبكي عليه، فقال أبو هاشم: لا أبكي على الدنيا ولا أبكي من وجع، إنما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم عهداً فوددت أني كنت اتبعته، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام وإنما يكفيك من الدنيا زاد ومركب} قال: فأدركنا فجمعنا، يقول ما أبكي الآن على الدنيا، إنما جمعت مالاً تمنيت أني لم أكن جمعته.
ومما يذكر في الأسف أيضاً على ما فات: موقف حصل لشاعر وعالم وداعية معاصر وهو الشيخ مصطفى السباعي أحد دعاة الإسلام، وقد قال قصيدة طويلة قبل أن يموت بخمس دقائق حينما صارحه الأطباء باليأس من شفائه، وكان خلفه صبية صغار وأهل وأم وزوج؛ فقال قصيدة يبكي فيها نفسه ويتأسف على من وراءه: أهاجك الوجد أم شاقتك آثار كانت مغاني نعم الأهل والدار؟! وما لعينك تبكي حرقة وأسى وما لقلبك قد ضجت به النار على الأحبة تبكي أم على طلل لم يبق فيه أحباء وسمار وهل من الدهر تبكي سوء عشرته لم يوف حقاً ولم يهدأ له ثار هيهات يا صاحبي آسى على زمن ساد العبيد به واقتيد أحرار أو أذرف الدمع في حِبِّ يفارقني أو في اللذائد والآمال تنهار فما سبتني قبل اليوم غانية ولا دعاني إلى الفحشاء فجار أَمَت في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إصرار وبعت لله دنيا لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غُفْلٍ عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زمانا أن أقودهم للمكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفن يوماً سيلبسه بر وفجار هيهات يا صاحبي آسى: يقول لا آسي ولا أبكي ولا أحزن على الحياة نفسها.
فما سبتني قبل اليوم غانية، يقول: لم يسبق يوماً من الأيام أن سبتني امرأة جميلة أو أخذت عقلي أو لبي، من يستطيع أن يقول: هذا؟! جلست قبل أسبوع أو أسبوعين إلى شيخ كبير السن في الخامسة والتسعين من عمره تقريباً فقال لي: والله ما أذكر أن الله تعالى سوف يسألني عن ذنب ارتكبته، سبحان الله! رجل في مثل هذا السن يطمئن إلى أنه لم يرتكب ذنباً، كلنا ذوو أخطاء لكن المقصود الفواحش والذنوب الكبار، إلا أنه لا يذكر أن الله سوف يسأله أنه سرق أو ارتكب ما يسخط الله عز وجل، قليل من الناس من يستطيع أن يطمئن إلى هذا الأمر، بل كل واحد منا يذكر أنه قد تلطخ بذنوب وأوزار، نسأل الله تعالى أن يسترها علينا وألا يفضحنا في هذه الدار ولا في دار القرار.
وإنما جزعي: هاهنا يتكلم عن الأسى والأسف على شي وراءه.
ثم يخاطب هؤلاء الصبية الصغار معزياً ومسلياً ومثبتاً لهم فيقول: بالله يا صبيبتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار وما نصيب الأم والزوجة والإخوة: أفدي بنفسي أُماً لا يفارقها هم وتنهار حزناً حين أنهار فكيف تسكن بعد اليوم من شجن يا لوعة الثكل ما في الدار ديار وزوجة منحتني كل ما ملكت من صادق الود تحنان وإيثار عشنا زماناً هنيئاً من تواصلنا فكم يؤرق بعد العز إدبار وإخوة جعلوني بعد فقد أبي أباً لآمالهم روض وأزهار أستودع الله صحباً كنت أذخرهم للنائبات لنا أنس وأسمار زينة الحياة الدنيا: جلساء صالحون.
الملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وأذكار ثم مات رحمه الله بعد هذه القصيدة بقليل.