ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده.
فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا.
وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي.
ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء.
أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا.
أحياناً يخطر في ذهني
Q العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها.
هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت.
ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي.
كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه.
إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم.