أنتقل إلى نقطة ثانية: وهي قضية مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراتب لا تحتاج إلى كلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عنها في حديث أبي سعيد الخدري كما في صحيح مسلم قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} إذاً، القضية قضية تدرج، وأول ما يحدث: التغيير بالقلب، فإذا رأيت منكراً فتغيره بقلبك، تكره هذا المنكر، وتبغضه وتتمنى زواله، وهذا التغيير يحدث أولاً في القلب، بعد ذلك القلب يرسل الأوامر إلى اللسان ليتكلم، فتقول لصاحب المنكر: يا أخي جزاك الله خيراً الأمر كذا وكذا وهذا لا يجوز، فإذا تحقق الامتثال فبها وإلا حينئذٍ يأتي دور اليد لإزالة المنكر وتغييره باليد.
إذاً من حيث الواقع العملي، أول ما يحدث هو التغيير بالقلب، ثم التغيير باللسان، ثم التغيير باليد، لكن المطلوب هو أن تغير بيدك إذا استطعت، فإذا عجزت فالجأ إلى التغيير باللسان، فإذا عجزت يكفي هنا أن تغير بقلبك، أن يعلم الله عز وجل أنك كاره لهذا المنكر، وهذا فرض عين على جميع الناس في جميع الظروف والأحوال، ولا يعذر أحد بتركه؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يمكن لأحد أن يمنع قلبك من أن يبغض المنكر: {فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} .
وفي حديث ابن مسعود أيضاً في صحيح مسلم: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي: الذي يرى المنكر فيسر به، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية، والعياذ بالله، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية الذي يرى المنكر، فلا يمتعض ولا يغضب فضلاً عمن يفرح أو يسر بهذا المنكر.
وهاهنا في موضوع مراتب المنكر يراعى أن الإسلام جاء بالتدرج في موضوع إنكار المنكر، فإذا أمكن أنك تكتفي بالتلميح فهو يغني عن التصريح، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} لماذا؟ لأن هذه الكلمة كانت تكفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج أن يقول يا فلان ويافلان، وإلا إذا احتاج فهل كان يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا يتركها، إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، وإذا لم يكف التلميح يصرح، ولذلك قد يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم -أحياناً- بأسماء.
مثلاً مرة من المرات جاءوا وقالوا: {يا رسول الله فلان منع الزكاة - ابن جميل رجل معروف باسمه واسم أبيه منع الزكاة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله} أي: ما له عذر في ترك الزكاة إلا كفر النعمة فقط، فأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة مدوية، ولم يقل: إن هذا من التحدث في الأشخاص، لماذا؟ لأن ابن جميل مصر، وبعث له البعث ورفض دفع الزكاة، فما بقي إلا التشهير وهو وارد.
أيضاً مرة من المرات كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فلما انصرف من صلاته، قال: {يا فلان ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر أحدكم كيف يصلي، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي} .
إذاً هذا وارد جداً وهذا كثير، وهو باب طويل، فالإنسان إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، إذا كفى أنك تقول: بعض الناس يفعلون كذا وكذا ثم ينتهي المنكر، هذا أحسن شيء وأجمل شيء، لكن إن لم يكف وكل واحد يظن أنك لا تقصده بل تقصد شخصاً آخر، فليس هناك مانع أن تقول: يا فلان، بينك وبينه فهذا حسن، وإذا ما استطعت إلا بإعلانها فليس هناك مانع أيضاً، فإن رأيت إنساناً مجاهراً بالفساد، يكتب الكتب والمؤلفات الطويلة العريضة، له مئات الكتب في هدم الإسلام والقضاء عليه، وحرب المتدينين، وتشويه التاريخ الإسلامي، والسخرية بالمؤمنين، والتشكيك في عقائد المسلمين، ثم تقول: لا تتحدث عن فلان، لا تتكلم في فلان، وتحتج عليَّ بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} هذا غير صحيح، من أعلن المنكر نعلن له الإنكار، ومن أسر أسررنا له الإنكار، فلا نأتِ لواحد قد أستتر بالمعصية ونفضحه أمام الملأ.
المهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب، وكلما أمكنت مرتبة فهو أولى، فإن أمكن التلميح تكتفي به، وإن احتجت إلى التصريح فبالتصريح، وإن لم يكف باللسان تنتقل إلى اليد وهكذا.