الأمر بالإكثار من الاستغفار

وثمة أمرٌ ثالث يؤكد أهمية التوبة والحديث عنها، وهو أننا نجد أن الله عز وجل أرشدنا إلى أن نُكثر من الاستغفار، عند الأعمال الصالحة، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] ويقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] .

ويقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح ودانت له جزيرة العرب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .

فكان عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عائشة، في الصحيح، بعد نزول هذه السورة، {يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} يعني: ينفذ أمر الله عز وجل له بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] فبعد أن جاهد عليه الصلاة والسلام، وكابد، وعانى، وطُرِد، وأُوذي، وألقي السلى على ظهره، وشج رأسه، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وأدميت عقباه، وأوذي، وشرد أصحابه، بعد هذا كله، يقول الله عز وجل له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .

وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان إذا صلى قال: {استغفر الله، استغفر الله ثلاث مرات} كما في حديث عائشة وثوبان في صحيح مسلم {أنه إذا صلى استغفر ثلاثاً ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام} فيتعود المسلم: أنه حين يعمل الأعمال الصالحة، ينبغي أن يستغفر، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباده المؤمنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] قيل معنى الآية: أنهم كانوا يقومون الليل تهجداً، قائمين، وراكعين، وساجدين، يراوحون بين أرجلهم، وجباههم، فإذا كان الفجر استغفروا الله عز وجل، وهذا له دلالات عظيمة جداً، منها: أن يدرك الإنسان أنه مهما بذل، فبذله شيء يسير بالنسبة لحق الله عز وجل، ولا يمكن أن يؤدي الإنسان حقيقة شكر نعمة الله تعالى عليه، لأنه كلما تعبد، كانت هذه العبادة نعمة جديدة، تستحق شكراً، فإذا شكر الله عز وجل على هذه النعمة، كان الشكر نعمة أخرى تستحق شكراً آخر، ولذلك يقول القائل: إذا كان شكري الله نعمة عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ فكيف أقوم الدهر في بعض حقهِ وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ المعنى الآخر: أن العبد قد يعتريه في أثناء عبادته تقصير من غفلة، أو سهو، أو نسيان، أو ما أشبه ذلك، فيستغفر منه.

المعنى الثالث: أن العبد إذا تعبد لله عز وجل، بعباده، أو طلب علم، أو تعليم، أو أمرٍ بالمعروف، أو نهيٍ عن المنكر أو غير ذلك، فإن الشيطان حينئذٍ يأتيه، ويقول له: أنت الذي فعلت وفعلت، وأنت الذي أتيت بما لم تستطعه الأوائل، جاهدت في سبيل الله، وعملت، وتعلمت، وبذلت، وأعطيت، الحقيقة: أنك إنسان مجهول القدر، مجهول القيمة، ولا يزال يفتله في الذروة والسنام، حتى يصيبه بالعجب والعياذ بالله الذي قد يحبط عمله، ولذلك يستغفر العبد ربه عقب العمل في آخره، لما قد يكون ورد على قلبه من مثل هذه الخواطر السيئة الرديئة، وبذلك ندرك أن كل إنسان محتاج إلى التوبة، فالعابد محتاج، والعالم محتاج، وطالب العلم محتاج، وكذلك العاصي، والمقصر محتاج، فضلاً عن غيرهم من الكفار والمشركين والمنافقين، فهم أحوج الناس إلى التوبة، والتوبة أوجب ما تكون عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015