مجالات ووسائل التطبيع

يشمل التطبيع مجالات عدة كما هو ظاهر، وهو بالدرجة الأولى يشمل المجال الديني، والثقافي، والفني، أي مجال تغيير العقليات العربية والإسلامية للقبول بإسرائيل كواقع لا بد من الاعتراف به، وإزالة خلفيات الصراع العقلية لدى المواطن العربي المسلم.

إن الآلة المباشرة للتواصل بين الشعوب هي المجالات الثقافية، والفنية، والإعلامية، ولا بد من تغيير قناعاتها ضد إسرائيل، والصراع من المعروف أنه يوجد في وعي الشعوب قبل أن ينتقل إلى الواقع، والمطلوب ببساطة في نظر اليهود هو نزع العداء من العقل المسلم استكمالاً لنزع السلاح من اليد المسلمة، وهذه عند اليهود ليست مهمة مستحيلة، بل هي مهمة ممكنة وإن كانت صعبة، فإذا كان العداء الموجود في عقل المسلم يأتي عن طريق التعليم فيجب تغيير مناهج التعليم وإزالة كل الأسباب التي تغرس العداء في عقل المسلم عن اليهود.

وإذا كان هذا العداء يأتي عن طريق الإعلام، فيجب صياغة الإعلام ورسم سياساته بما يضمن وجود قدر من التفاهم بين شعوب المنطقة، وقدر من الإيمان والقناعة لدى المواطن والفرد العادي بإسرائيل وحقها بالعيش بسلام ضمن دول المنطقة.

وإذا كانت الحقائق التاريخية الماضية هي التي تشوه الصورة وتغرس في العقل العربي والمسلم العداء لليهود؛ فإنه من الممكن تصفية الأحقاد عن طريق تجاهل الحقائق التاريخية الماضية ونسيان السيرة النبوية ونسيان كيد اليهود للأمة الإسلامية عبر التاريخ، والتركيز على ما يمكن أن يعتبروه من الجوانب الإيجابية مثل وجود يهودي في بلاد الأندلس، أو في المغرب، أو في المشرق كان طبيباً له دور في تنمية الطب في هذا البلد أو ذاك، أو وجود مغنٍ يهودي أو تاجر يهودي، أو ما أشبه ذلك.

إن اليهود يضربون المثل بألمانيا وفرنسا، فيقولون: إن ألمانيا وفرنسا خاضت حروباً طويلة قبل الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فقد ذابت العداوة بينهما، وأصبحت فكرة نشوب حرب جديدة بينهما لا تخطر في بال أحد من الناس، كما يضربون كذلك مثلاً بأمريكا واليابان، حيث خاضتا حرباً شاملة من (1941م - 1945م) واستخدمتا أكثر الوسائل قتلاً وفتكاً، وهاهما الآن حليفتان ليس بينهما حرب ولا يخطر في بال أحد -فيما يظنون- أن تقوم بينهما حرب، بل إن شعوب أوروبا المتناثرة المتناحرة لمئات السنين؛ هاهي الآن قضت على مشاعر العداء بشكل حاسم دون أن تطمس الخصائص الثقافية والوطنية لكل دولة من هذه الدول.

إن اليهود يجهلون، بل يتجاهلون الفرق بين حرب كانت هي السبب في العداوة وبين عداوة كانت هي السبب في الحرب، فإن العداوة بين أمريكا واليابان أو بين دول أوروبا كان سببها الحرب، والخلاف على المصالح، أما الخلاف بين المسلمين وبين اليهود فهي سبب الحروب، وليس سبب العداوة بيننا وبين اليهود أننا خضنا معهم حرباً، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المرعى، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المياه، ولا سبب الصراع بيننا وبينهم الصراع على أشجار الزيتون في فلسطين كلا بل سبب العداوة بيننا وبين اليهود وغير اليهود أننا مسلمون وهم كفار، ونحن ننطلق من هذا المنطلق، ونقول كما قال سيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام ومن كان معه: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .

إذاً: القضية بيننا وبين خصومنا من اليهود وغيرهم ليست قضية اقتصادية ولا قضية أرض ولا قضية مياه، وإنما القضية بيننا وبينهم هي قضية العقيدة، وقضية الدين، وقد فرق الإسلام بيننا وبينهم ولذلك فرق الإسلام من قبل بين العربي وأخيه العربي، بل فرق الإسلام بين القرشي وأخيه القرشي، بل فرق الإسلام بين الأخ وأخيه الشقيق.

كم أب حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه وكان المسلم يقول لأخيه: كذبت لست أخي فرق الإسلام بيني وبينك.

إذاً: القضية بيننا وبين اليهود ليست قضية صراع دنيوي، إنما هي قضية صراع ديني، وكل مظاهر الصراع الدنيوي هي أثر من أثار ذلك الصراع والخلاف الديني، الأساسي والجوهري بيننا وبين اليهود.

ولذلك نقول: إن الأمر بيننا وبين اليهود لا يُعبر ولا يمكن أن يقام عليه جسر بأي حال من الأحوال ما داموا على ما هم عليه من الكفر والضلال، ويدخل في هذا الخندق مع اليهود كل الكفار سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق، أم حتى من العرب الذين هم عرب في ألفاظهم وكلماتهم وخطبهم النارية الرنانة ولكنهم يهود في قلوبهم، ويهود في عقولهم، ويهود في أفكارهم: ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب واحسرتاه لقومي غرهم قَرِم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب حتى إذا أمكنته فرصة برزت حُمد المخالب بين الشك والعجب وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب وحارب الدين والإسلامُ قاهرُه وكم خلا مثله في سالف الحقب لكن اليهود لا يعقلون، ومن وراء اليهود، ومن أمامهم، وعملاؤهم في المنطقة العربية أيضاً لا يعقلون، ولهذا يتصورون أنه بالإمكان نزع فتيل العداوة لليهود، وأن بالإمكان أن يتغير قلب المسلم، فيحل محل العداوة والبغضاء لليهود، شامير، وعزرا، وحاييم وأمثالهم يحل محل العداوة والبغضاء الحب والرحمة والإنسانية والعطف واللطف، ومحال أن يكون هذا في قلب يخفق بلا إله إلا الله، محال أن يكون هذا بعقل يؤمن بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة, وأن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، محال أن يوجد هذا في قلب المسلم الذي يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ معارك الإسلام مع اليهود، ويعرف قضايا خيبر وبني قينقاع وبني النضير وأمثالهم، ويدرك خطط اليهود عبر مراحل الخلافة الإسلامية، وماذا كادوا للإسلام، وماذا خططوا! إن المسلم حتى وإن كان أميّاً بسيطاً ساذجاً حتى ولو كان قروياً حتى ولو كان راعي إبل أو غنم يدرك أن اليهودي عدو له، وأن هذا اليهودي وإن كان مؤدباً في مظهره، وإن ملأت الابتسامة وجهه، وإن تأدب في عباراته وأحاديثه، وإن كتب الكلام الجميل، وإن نطق بالعبارات الحلوة إلا أن قلب هذا اليهودي مملوء ببغض المسلمين، يعرف المسلم هذا بشكل لا يحتاج إلى نقاش، ولا يقبل عنده النقاش، كما يعلم المسلم علم اليقين أنه ليس مسلماً قط إذا تخلى عن بغض الكفار، فإن كلمة: لا إله إلا الله التي هي عتبة الدخول في الإسلام هي نفي وإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله، لا معبود بحق إلا الله، وكذلك تبعاً لهذا تنفي أن تكون المحبة لغير المسلمين، فتعني نفي الحب عن جميع الكفار من اليهود والشيوعيين والنصارى والوثنيين وغيرهم، وتثبت المحبة لأهل الإسلام حتى ولو قصروا في حقك، حتى ولو ظلموك، ولو بخسوك، ولو أساءوا إليك يبقى حبهم ليس من باب المصلحة الدنيوية ولكن من باب الحب الديني.

أما أولئك الأعداء من اليهود والنصارى فيبقى بغضهم وعداوتهم حتى ولو أحسنوا إليك، حتى ولو تظاهروا بألوان المودة والقرب؛ فإنهم يبقون أعداء يبغضهم المسلم من منطلق أنه مسلم وهم كفار، لا يجتمع الإسلام وحب الكفار في قلب واحد أبدا، لكن اليهود وأعوانهم يعتقدون أن بإمكانهم إخراج هذه العداوة من قلب المسلم، ويعتقدون أن مناهج التعليم، ومناهج الإعلام، وتزوير الحقائق التاريخية كفيل بإزالة هذه العداوة من قلوب المسلمين.

أيها الأحبة: إنه في الوقت الذي يتكلم فيه اليهود عن التطبيع، وعن إزالة العداوة من قلوب المسلمين فإنهم لا يمكن أن يتقبلوا بحال من الأحوال أن يتجاهل أي مسلم الأساس العقائدي الديني لدولة اليهود، فإنها لم تقم على أساس عرقي بحت، ولا على أساس سياسي أو جغرافي، إنما قامت إسرائيل على أساس ديني، ويقول بعضهم: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، ولكن التوراة هي التي حفظت اليهود، فعقيدة دولة إسرائيل هي رخصة تسمح لهم بالتوسع وطموحات المستقبل، وهي مستند الشرعية لأعمال العنف والإبادة الجماعية التي يقومون بها، وهي مسوغ ضم القدس والجولان، واللعب بالخريطة الجغرافية في المنطقة كل يوم، فهذه حدود آمنة لإسرائيل وهذه حدود تاريخية، وهذه حدود يمكن الدفاع عنها، وهذا نطاق أمن لإسرائيل، وهذه أرض مشى فيها الأسباط الإثنا عشر إلى آخر هذه المصكوكات الدموية، ومن غير هذا يمكن أن تتلوث ثياب بني إسرائيل وأيديهم وقلوبهم من حمامات الدم التي أجروها أنهاراً في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015