كان الشيخ يدرك أن في ذلك الإنكار العلني وقول كلمة الحق والصدع بها، فوائد عديدة ومن أهمها: أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك.
وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.
إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس.
ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل.
فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.
ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك.
فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم.
ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له.
ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا، بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان.
وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا، كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.