أنتقل إلى نقطة أخيرة وهي ما يتعلق بتربية الأطفال، قصة تقول: أن امرأة في مدينة شيكاغو -وهي مدينة معروفة بالجريمة- جردت أطفالها الخمسة الذين كانوا يتراوحون ما بين سنة إلى خمس سنوات، جردتهم من ملابسهم، وبدأت تضربهم وتكوي أبدانهم بأعقاب السجائر، وتعذبهم وتغلق عليهم الأبواب، وتجيعهم يوماً كاملاً، فبصر بهم رجل من الجيران، فجاء وأنقذهم، وبعدما سألوهم، تبين لهم أنهم طيلة ذلك اليوم لم يأكل الواحد منهم إلا بيضة واحدة، وأنهم تعرضوا لألوان من الضرب على يد أمهم.
وفي مدينة أوكلند أيضاً بكاليفورنيا، يقول: يوجد أكثر من أربعة ملايين طفل، يقضون أكثر من ثلاث ساعات في البيوت بمفردهم، وأعمارهم تتراوح ما بين ثلاث سنوات إلى سبع سنوات، يأتي من المدرسة قبل مجيء أبيه وأمه من العمل بأربع ساعات فيجلس في البيت، خاصة في أوقات الشتاء والبيت ظلام، والرياح تعصف، والأمطار تهطل، والمخاوف تحيط به من كل جانب، وهو طفل عمره أربع سنوات جالس في البيت لوحده.
وهل أتاك نبأ أطفال المفاتيح؟ وما أدراك ما أطفال المفاتيح؟! دهشت إحدى المعلمات حين وجدت أن أربعة وعشرين من بين ثمانية وعشرين من طلابها هم من أطفال المفاتيح! بمعنى أن الطفل بحكم أنه يخرج من البيت قبل والديه ويدخل قبلهما لا بد أن يكون معه مفتاح، يفتح البيت ويدخل، ويغلق على نفسه، ويجلس ساعات طويلة بانتظار مجيء أمه أو مجيء أبيه، وهذا يجعله عرضة للوقوع في الجرائم: جرائم الخطف، السرقة، المخدرات، احتمال الحرائق في البيوت حتى بلغ الحال في كثير من هؤلاء الصبيان، أن الواحد يغلق على نفسه دورة المياه حتى يأتي أهله، إذا نام فإنه يعيش في أحلام مزعجة، وبالتالي هذا الطفل حينما يكبر يقوم بسداد الديون لوالديه! فحين تنتقل إلى كبار السن تجد أن مصيرهم إلى دُور العجزة، وقد رأينا كثيراً من هذه الدور يرقد فيها الكثير من الكبار، أحسنهم حالاً يبتسم ويفتخر، حين يقول لك: إن ولدي بار بي أشد البر، فتقول له: كيف؟ فبقول: والله يزورني في العيد (عيد الكريسمس) -كما يسمونه- يزوره مرة في السنة! وآخر تعلو وجهه ابتسامة حين يتحدث عن ولده أيضاً بكل فخر؛ لأن ولده أرسل له بطاقة معايدة، وهذا ما زاره، بل أرسل له بطاقة معايدة في العيد فقط! وثالث يمكن أن يتصل به في الهاتف، وكفاه ذلك.
وفي مدينة، سان فرانسيسكو، رجل عمره خمسة وأربعين سنة، عاش على مدى خمس سنوات كلها يقضيها في الشارع، معه حقيبة فيها فراش للنوم، يقول: أما طعامي فإني آخذه من صناديق القمامة! وهذه لا تظنوها مبالغات، والله لقد رأيناهم! وقرأنا في الإحصائيات أنه يوجد في ولاية أكثر من خمسة ملايين يعيشون على الأرصفة من دون مأوى، ورأينا كثيراً من هؤلاء يتسولون في الشوارع، تعطيه قرشاً أو قريباً من ذلك، وبعضهم يفتش القمامة لعله يجد شيئاً يأكله! هذا في أرقى بلاد العالم تقدماً ورقياً وحضارة! إنهم يسددون الديون التي أخذوها من أطفالهم حين أهملوهم وتركوهم، هذا الرجل الذي تحدثت عنه هو واحد من أربعة آلاف رجل في مثل هذه المدينة.
وفي مقابل ذلك تجد العناية بالحيوانات -الكلاب والقطط- بشكل غريب، بل العناية بالدمى -التماثيل- بصورة أحياناً تدعو إلى الضحك: جلسات نفسية لهذه الدمى، مستشفيات خاصة، وعلاج وتجميل وترميم، وأشياء غريبة.
وفي مدينة من مدن أمريكا، قال لي بعض الشباب: لو ذهبنا لمشاهدة بعض مستشفيات الحيوانات! حتى نرى جزءاً مما أنعم الله به علينا من نعمة الإسلام والعقل، فقلت له: هلم، فذهب بي إلى مستشفى، وجدنا على مدخل هذا المستشفى المجلات الكثيرة المتخصصة في قضية الكلاب وأمراضها وعلاجها وكيفية التغذية، إلى غير ذلك، ثم جاء الطبيب المختص، وأخذ يذهب بنا إلى المستشفى ويشرح لنا: هذه الغرفة خاصة للعمليات، وهذه غرفة للمرضى، وهذه غرفة الطبيب، وهذه غرفة الأشعة، وهذا المختبر، وهذه غرف للترقيد، ووجدنا بعض النزلاء، حتى وجدنا أن امرأة كبيرة السن قد انحنى ظهرها، وهي تقوم بخدمة الكلاب، بالكنس والتنظيف وتقديم وجبات الطعام، وغير ذلك من الأشياء.
وأحياناً تدخل إلى الفندق، فتجد أن الكلب جالس على الكرسي، وأمامه الطاولة وأن الرجل صاحبه أو المرأة يأتي بالصينية عليها الطعام ويقدمها له، وأما الكلب فهو جالس يشاهد الشاشة، أصبح الرجل وأصبحت المرأة مجرد خدم لمثل هذه الحيوانات من القطط أو الكلاب أو غيرها! وسألتهم: هل هذا هو المستشفى الوحيد؟ وكانت تلك المدنية مدينة صغيرة جداً، سكانها لا يتجاوزون عشرين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً، فقالوا لي: هذا المستشفى رقم عشرة! مدينة كهذه المدينة فيها عشرة مستشفيات مخصصة للكلاب! لكن كبار السن لهم دار واحدة للعجزة، يحشرون فيها حشراً ويهملون، حتى أولادهم هم أول من يتخلى عنهم! وهذا جانب يكشف نعمة الله بالإسلام علينا، وأننا يجب ألا ننخدع ببهرج الحضارة الغربية، فإنها تعيش أسوأ ظروفها، ولست أقصد أن كل ما عندهم شر أو سيء أو مذموم، كلا! لكن المؤسف أننا أصبحنا نحاول أن نأخذ منهم أسوأ ما عندهم، ونقلدهم في هذه الأمور المنحطة من أخلاقيات أو تقاليد أو عادات، أو تسريحات، أو أمور سيئة، أما القضايا الحيوية المهمة: قضايا العلم، قضايا الصناعة، قضايا الدقة، العناية بالإحصائيات، التقدم العلمي في كافة مجالاته، التنظيم، التخطيط، فكل هذه الأمور قد لا نفكر بأن نأخذها عنهم، فكثير من المسلمين أصبحوا يأخذون من عند هؤلاء القوم أسوأ ما عندهم، ويقلدونهم فيها، ويغضون الطرف عن الأشياء الحسنة التي يمكن أن تؤخذ، -كما قيل-: الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها.