رابعاً: حفظ العرض

من الضرورات التي جاء الدين بحفظها أيضاً العرض: وذلك من التعرض له بما يخدشه أو يسيء إليه، ومن هذا المنطلق أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون عرضه فهو شهيد} سواء حماية العرض من الانتهاك بارتكاب الفواحش بأنواعها، أم حماية العرض من السب، والشتم، والثلب، والغيبة، والنميمة، والقالة بغير حق فكل هذه الأشياء يتعلق بها ضمانات وأحكام جاء بها الإسلام لحماية أعراض الناس، ليبقى لكل إنسان سمعة مصونة، وعرضٌ محفوظ لا يحق لأحد أن يتعرض له بشيء.

أما في الغرب عند الكفار فكلمة "عرض" ليست موجودة في لغتهم، بمعنى أنه لا يوجد ترجمة تقابل كلمة عرض في اللغة الإنجليزية مثلاً، ولذلك ليس عندهم قيمة للأعراض.

عمر رضي الله عنه يقول في منشورة إلى الناس -وهذا في الأمصار-[[أيها الناس! إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم -الأمراء الذين أبعثهم إليكم ما بعثتهم ليضربوا أبشاركم- ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم دينكم ويقسموا فيكم فيئكم]] مهمة عمالي الذين أرسلهم إليكم، ليست ليضربوا الناس ويعتدوا عليهم، ويستغلوا صلاحياتهم ومواقعهم في إيذاء الناس والاعتداء عليهم، ولا لينهبوا أموال الناس باسم المصلحة العامة، وإنما مهمتهم تتلخص في تعليم الناس الدين، لإنهم كانوا فعلاً علماء، وكان عمر يختار العلماء، فبعثهم ليعلموا الناس دينهم ويقسموا في الناس فيئهم، يقسموا المال وليس ليأخذوه من الناس.

إذاً عمر يعلم الناس مالهم؛ حتى يطالبوا به، والذي يريد أن يتنازل بعد أن يعرف فهذا شيء آخر.

قصة من تاريخ السلف على حفظ العرض:- ربعي بن عامر رضي الله عنه، رسول المسلمين إلى رستم، رجل بسيط متواضع لا يملك شيئاً، ما درس في جامعة، ولا في مدرسة، لكنه تعلم في أعظم مدرسة، مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتربى في هذه الصحراء التي ولدت كبار العباقرة والعظماء والعلماء؛ بعدما استضاءت واستنارت بنور الإسلام.

عندما يدخل على رستم، يسأله رستم: ما الذي جاء بكم؟ أنتم كنتم في الصحراء زمناً طويلاً، نبعث لكم بين الحين والآخر شيئاً من الأموال، والأقوات، والأطعمة، والأكسية فتسكتون إلى مثلها، فما الذي جاء بكم؟ فقال له: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد]] إخاً هم أولاً: تحرروا من العبودية للعبيد، بكل ألوان العبودية، تتحرروا -مثلاً- من الحب للمال، الذي يجعل الإنسان عبداً لمن يملك المال، وتحرروا من الخوف من الموت الذي يجعل الإنسان يخشى الموت، فيسكت عن كلمة الحق، أو يجامل، أو يطأطئ رأسه، تحرروا من حب الدنيا بألوانها وصورها، ولما تحرروا من العبودية لغير الله عز وجل بكافة صورها، خرجوا إلى الآخرين ليخرجوهم، كما يقول ربعي: [[لنخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] .

إذاً هذه المبادئ التي يقاتل المسلمون من أجلها: أولاً: تحرير الإنسان في الأرض كلها من العبودية لغير الله عز وجل.

ثانياً: إخراج الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة الأفق، لإن الإنسان الكافر، وافترض أنك أمام عالم كبير في مجال من المجالات الدنيوية، أو فيلسوف شهير، أو عبقري خطير، ومع ذلك إذا كان غير مؤمن فهذا الإنسان تجد أن تفكيره لا يتجاوز حدود هذه الدنيا، لا يتجاوز حدود عقله المحدود، والعقل ما لم يستنر بنور الوحي فهو وبال على صاحبه، يجره إلى المهالك، ويصور له أنه يعرف كل شيء، ويقدر على كل شيء، ويحيط بكل شيء.

فلذلك يخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فإن كل شيء سوى الإسلام هو ظلم وجور.

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، اختصم يوماً من الأيام هو ورجل من الصحابة، لعله بلال أو غيره.

رجل أسود حبشي، فقال له: يا ابن السوداء! يعيره أبو ذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن جعل الله تعالى أخاه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق، فإن حملتموهم فأعينوهم} .

إذاً حتى الذين كانوا عبيداً أرقاء حفظ الإسلام كرامتهم، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر، الذي ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة منه، ولا أنصح منه، ولا أزهد في الدنيا منه، قال له: {إنك امرؤ فيك جاهلية} فما وجد أبو ذر رضي الله عنه، سبيلاً لاستخراج الجاهلية من قلبه، إلا أن نام على الأرض وجعل خده على التراب، وقال: [[والله لا أقوم حتى تأتي فتطأ على خدي]] ليأتِ ابن السوداء ويطأ على خدي، حتى تخرج هذه الجاهلية من قلبي، هل ترى أبا ذر رضي الله عنه، أو أحداً من المؤمنين يعود لمثلها، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر هذا من الجاهلية؟ لأنه لا فضل لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود ولا للون على لون، إنما {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .

وهذا جبلة بن الأيهم ملك من ملوك العرب من ملوك غسان، أسلم وجاء يطوف بالكعبة، وهو لا يزال يحتفظ بذكريات الأبهة والفخفخة التي كان يعيش فيها في الماضي، فكان يطوف في الكعبة، والمسلمون سواسية كأسنان المشط، ليس بينهم فرق ولا تفاضل إلا بتقوى الله عز وجل، حتى أتقاهم فضله عند الله تعالى، أما عند الناس فقد يقدرونه ويجلونه، لكن يبقى أنه كغيره.

فـ جبلة هذا كان يطوف بالبيت، فمر به أعرابي ووطأ على إزاره، فربما انحسر إزار هذا الرجل الملك الغساني، فأقبل على الأعرابي فضربه وهشم أنفه، ذهب الأعرابي ودماؤه تسيل إلى أمير المؤمنين الفاروق عمر، فقال له: من فعل بك هذا؟ قال: جبلة بن الأيهم، فدعاه عمر وقال: لماذا تفعل به هذا؟ قال له: إنه وطئ إزاري.

قال: القصاص، تسامحه يا أعرابي؟ قال: لا أسامحه.

قال جبلة: أنا ملك وهو سوقة، أي: هذا مسكين هذا إنسان من الطبقة الرابعة أو الخامسة، وأنا ملك فلا تقتص مني.

قال: إن الإسلام قد سوى بينكما فانتظر جبلة، ويذكر في بعض الروايات أنه هرب وارتد عن الإسلام وذهب إلى بلاد الفرس أو الروم، ثم بعد ذلك كان يتأسف على ما مضى منه، ويتمنى لو صبر على القصاص والتزم بهذا الدين الذي دخل فيه يوماً من الأيام.

فالمقصود أن الإنسان مكرم في الإسلام عملياً وليس نظرياً فقط، الإنسان كائن مكرم محترم مقدر لا تُمس كرامته بسوء، ليس من حق أحد أن يعتدي عليه، أو يسيء إليه بقول ولا بفعل ومن هذا المنطلق منطلق الحفظ، مثلاً: قضية القذف يأتي إنسان إلى آخر فيقذفه؛ فمن حقه أن يطالب القضاء الشرعي أن يقيم على القاذف الحد، ويجلد ثمانين جلدة مقابل كلمة خرجت من فمه تسيء إلى إنسان وهي بغير حق.

وعلى مدار التاريخ قد وجد في المسلمين عصورٌ ضعف فيها تقديرهم لكرامة الإنسان وحق الإنسان، ووجد من يعتدي على الإنسان، على ماله، أو عرضه، على كرامته، أو حقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على حقه في الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك وجد من يدافع عن هذا الإنسان، ويطالب بإعطائه حقه الذي شرعه الله له عز وجل.

مثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية، لعله من الرموز الكبيرة الذين كان لهم دور كبير اقرأ كلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، اقرأ كتابه في المظالم المشتركة، وكذلك فتاويه وغيرها، كيف تجد أن شيخ الإسلام -رحمه الله- كان من أعظم الهموم التي تشغل باله مصالح الناس خاصتهم وعامتهم، وكان منتصباً لخدمتهم، والسهر على مصالحهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، بلسانه وقلمه كما قال عنه بعض واصفيه ومؤرخيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015