جاءت الشرائع -ثانياً- لحفظ العقل، الذي به مُيّز الإنسان وكُرّم، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله وأصبح في عداد المجانين لم يلتفت إليه أحد، ولم يكن له شأن ولا قيمة، وأصبح أضحوكة للناس يتندرون به وبأحواله.
فالشرائع جاءت لحفظ العقل من التضليل وممارسة الكذب على عقول الناس، فإن كثيراً من الأمم تمارس التضليل على عقول أفرادها، تضلل العقول، وتملي عليهم، وتستخدم المثل الذي يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، فكثرة ترداد الكذب تفرض على عقول الناس تصديقهم، حتى ينخدع الناس بهذا الأمر.
ولعل أقرب مثال لممارسة الكذب والتزوير: أنك تجد أجهزة الإعلام في كثير من بلاد العالم الشرقية والغربية، لا أقول العالم الإسلامي فقط، بل حتى بلاد الغرب الذين يدعون الحرية في إعلامهم، تجد أن أجهزة الإعلام في الواقع تمارس تضليلاً على شعوبها.
فمثلاً: في الغرب يدعون أنهم ديمقراطية -كما يقولون- أي أن الأفراد لهم مكانة ولهم قيمة ولهم اختيار، وكل شيء عندهم بالترشيح والانتخاب، هل هذا فعلاً صحيح بهذه الصورة التي يتصورها الآخرون؟ لا أنكر الحقائق وأن هناك أشياء كثيرة من ذلك، ولكن أيضاً هناك جانب آخر وهو أن الإعلام يمارس ديكتاتورية من نوع آخر، فيفرض على الناس القناعة بأشخاص معينين، أو بآراء معينة.
ولذلك تجد أن الإعلام؟ من جهة يعطي الناس معلومات كاذبة تؤثر في عقولهم، ومن جهة أخرى يرسل من يحاولون أن يستقرئوا الرأي العام.
خذ مثالاً: قضية الحرب، إذا أرادوا أن يقيموا حرباً أو صلحاً، هم من جهة يسلطون إعلامهم للتأثير في عقول الناس بحيث يتقبلون الأمر الذي يختارونهم، ومن جهة أخرى يجعلون هناك معاهد ومدارس ومراكز تحاول أن تنظر ما هي وجهة نظر الناس، فتخرج لك نتيجة أن (80%) يريدون كذا، و (90%) يريدون كذا، وهذا في الواقع صحيح أنه وجهة نظر الناس، لكن وجهة نظر ليست بريئة، وإنما هي وجهة نظر أناس سلط عليهم نوع من التضليل والتغيير، وفرض رأي بطريقة هادئة، ليست بالطريقة البدائية التي تستخدم في البلاد الأخرى، طريقة القوة والقسر والإكراه والطريقة المكشوفة، حتى الكذب له أصول، فالذين يكذبون كذباً أبله، ينكشفون أمام الناس ويتعرون ويصبح كذبهم يزيد سقوطهم عند الناس، لكن الذين يكذبون كذباً منظماً مدروساً محبوكاً يستطيعون أن يضلوا الناس لفترة معينة.
إذاً الدين جاء لحماية العقل من التضليل، ومن التزوير بكافة صوره وأشكاله، كما جاء لحماية العقل من الضلال في نظريات فلسفية ومذاهب منحرفة ضالة قد لا يستطيع الإنسان أن يميزها، كما جاء لحفظ العقل من الضياع عن طريق المسكر، ولهذا حرم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كل أكل أو شرب يعود على العقل بالضياع، المخدرات، والخمر، والحشيش، والأفيون وغيرها، وذلك لأغراض، منها حفظ عقل الإنسان، لإن هذا العقل جوهرة ثمينة يجب أن تحفظ وتصان ويستفاد منها فيما ينفع الإنسان ويعود على الفرد والأمة بالمنفعة العاجلة والآجلة.