وعلى سبيل التمثيل وليس الحصر، انظر مثلاً: إلى ما تحلى به معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان فقهياً من فقهاء الصحابة ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: {إنه يتقدم العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة مقدار رمية سهم.
والحديث ورد عند ابن سعد عن محمد بن كعب، والحسن البصري مرسلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عند ابن سعد وابن عساكر موقوفاً على عمر بن الخطاب من قوله، وورد عند الحاكم موقوفاً على أنس بن مالك؛ وهو صحيح بمجموع طرقه.
ومثل معاذ رضي الله عنه عبد الله بن مسعود، فقد قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إن ابن مسعود كنيفٌ ملئ علماً]] والكنيف: تصغير كَنف، والكنف: هو الجانب، أو الناحية، أو تصغير كِنف بكسر الكاف، وهي: المزادة التي يضع فيها الراعي متاعه.
والمقصود أن عمر عبر عن ابن مسعود بأنه: [[كنيف ملء علماً]] وهذه الرواية رواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم وغيرهم.
فهذا معاذ، وهذا ابن مسعود ومعهم غيرهم من الصحابة تميزوا بالعناية بالعلم والاهتمام بالتفقه في الدين.
لكنك حين تنتقل مثلاً: إلى خالد بن الوليد، تجد خالداً رضي الله عنه لم يشتهر في حمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ، أو ابن مسعود، أو غيرهما من فقهاء الصحابة.
وإنما اشتهر خالد رضي الله عنه بإتقان فنون الحرب والفروسية والكر والفر، حتى أصبح هذا هو ديدنه، وأصبح يجد لذته وسعادته وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس، ولذلك كان رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[ما ليلة تهدى إلىَّ فيها عروسٌ أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام، بأحب إلىَّ من ليلة شديدة الجليد أصبح فيها العدو في سرية من المهاجرين]] الله أكبر! يجد من اللذة في هذا الجو البارد شديد البرودة، والمخيف، في سرية من المهاجرين يصبحون العدو، وقد أصابهم من الخوف والبرد ما أصابهم، يجد من اللذة في معاناة ومقاساة هذا العمل الصعب على النفوس بحكم الجبلة والطبيعة ما لا يجده في ليلة تهدى إليه فيها عروس، أو يبشر فيها بغلام.
وهذه الكلمة من أبي سليمان رضي الله عنه رواها عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة"، وأبو يعلى، وابن حبان، وابن عساكر وغيرهم، وإسنادها صحيح.
وحينما تنتقل إلى أنموذج ثالث، تجد مثلاً: أبا ذر الغفاري رضي الله عنه؛ وأبو ذر لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره، ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره من بقية الصحابة، إنما الناحية التي برز فيها وعرف بها هي قضية الزهد والورع، والحث على التقلل من الدنيا والتزود للآخرة، وله في هذه القضية مذهب خاص معروف، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره.
وتجد من الصحابة غير هؤلاء من لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق، وهذه المزايا التي تميز بها الصحابة رضي الله عنهم، أو مجموعات من الصحابة تميزوا بها، وتميزت كل طائفة منهم بما لا يتميز به غيرهم هي راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب، وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم، فـ خالد رضي الله عنه جبل على الشجاعة.
وابن مسعود رضي الله عنه منح من قوة الذاكرة، وقوة الاستنباط، والتجلد في طلب العلم ما ليس لغيره وهكذا.
فإذاً من مجموع هذه الخصائص يتكون المجتمع المسلم، وهذا أمر لا بد من مراعاته.
وهذه الصورة المثالية الموجودة في مجتمع الصحابة، يجب أن نعمل على أن نتمثلها في واقعنا اليوم، ونحن نسعى إلى تكوين المجتمع المسلم الصحيح الذي يتأسى بمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فندرك أنه لا بد أولاً: أن يلتزم كل فرد منا بقدر معين من الخصائص والصفات، يكون هذا القدر مشتركاً بين جميع الأفراد، فكل فرد لا بد أن يتعلم من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في حياته العملية، وكل فرد لا بد أن يعرف العقيدة الصحيحة، ليس عن طريق التقليد والوراثة، بل عن طريق التلقي ومعرفة الدليل، وكل فرد لا بد أن يلتزم بقدر من العمل، والعبادة، والقيام بما لا بد له منه في ذلك.