ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1-220) كلاماً مهماً، بهذا الصدد، يقول: " صحة الفهم، وحسن المقصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، بل ما أعطي عبداً عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبه يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم -إذاً لاحظ: حسن القصد، وحسن الفهم-: ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنَا أن نسأل الله أن يهدينا طريقهم في كل صلاة.
وقال: والعلم بمراد المتكلم -وهذا هو الشاهد- يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول -يعني على اللفظ- أوضح لأرباب الألفاظ -المعنيين بالألفاظ- والحوالة على الثاني -يعني المعنى- أوضح لأرباب المعاني، والفهم، والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، أو تحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، انتهى كلامه.
إذاً: يغلط الناس على المتكلمين أحياناً بأسباب منها: الأول: أنهم يعتنون باللفظ لا بالمعنى، والذي ينبغي أن يعتني الإنسان بالمعنى ولا يتوقف عند الحروف والألفاظ متى ما كانت محتملة.
الأمر الثاني: أنهم قد يقعدون ويقصرون بهذه الألفاظ عن عمومها، ويهضمونها عن ما تدل عليه، وعن ما يراد لها.
الأمر الثالث: أنهم قد يحملونها فوق ما تحتمل، وفوق ما تريد، ويفهمون من الكلمات فوق معانيها، فيجعلون للكلام منطوقاً ومفهوماً، ودلالة تضمن، ودلالة اقتضاء، ودلالة كذا، بل أكثر من هذا كله أنهم يجعلون كلمات ما وراء الكلمات، ويفهمون ما وراء السطور، وما وراء الحروف، وما بين السطور، وما أمامها، وما خلفها، ويضيفون إلى كلام المتكلم أنه يقصد كذا، ويريد كذا ويعني كذا.
وكلمة يقصد، ويريد، ويعني، ليست من المتكلم إنما هي من المتلقي، ولا يجوز أبداً أن يُحمل المتكلم وزر المتلقي، دع ما في قلوب العباد لله عز وجل، فإن الله عز وجل لم يتح لأحد من البشر أن يعرف ماذا في قلوب العباد، إلا إذا باحت ألسنتهم، أما دخائل القلوب فإنه لا يعملها إلا الله عز وجل.
ولا ينبغي للعبد أن يسترسل مع نفسه في تصور ما في قلوب الآخرين، فربما يخطئ، وربما تظلم، وربما تظن بإنسان ظناً وهو غير ذلك، فأولى بك ثم أولى أن تتقي الله عز وجل وأن تبتعد عن محاكمة قلوب الناس.
فليس هناك نظام في الدنيا، من الأنظمة البشرية، ولا أَذِنَ دين من الأديان السماوية أن نحاكم ما في قلوب الناس، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كانوا يأخذون الناس بظواهرهم ويكلون سرائرهم إلى الله عز وجل.