ففي نظر هؤلاء -مثلاً- يمكن يوظف مصطلح التطرف أحياناً في مواجهة المواقف السياسية, فالذين ينتقدون الصلح مع إسرائيل هم متطرفون, ولذلك وجدنا مجلة الوطن العربي تنبز منظمة حماس الإسلامية الفلسطينية، تنبزها بأنها منظمة متطرفة, لماذا؟! لأن موقفها من قضية السلام موقف واضح وصريح، فهي ترفضه وتعتبر أن المشاركة في مؤتمر السلام خيانة لقضية الأمة الإسلامية.
وبالأمس القريب كانت منظمة حماس عند هؤلاء وغيرهم رمزاً من رموز المقاومة الوطنية الناضجة, التي تقاوم الاحتلال الصهيوني الغاشم, هكذا كانت عباراتهم, فبين عشية وضحاها تحولت من منظمة وطنية ومنظمة مقاومة تحولت إلى منظمة متطرفة.
وهكذا يبرز جانب التحالف الجديد بين العلمانيين الذين كانوا بالأمس في موقف المعارضة في الغالب فتحولوا اليوم أمام خطر ما يسمونه هم وغيرهم بالتطرف الديني, تحولوا إلى موقف التحالف مع القوى الأخرى, مع السلطات ومع الغرب ومع غيرهم, وسأزيد هذه النقطة وضوحاً في النقطة التي بعدها.
ً فقد يوظف التطرف أحياناً أو ما يسمى بذلك في مواجهة بعض المواقف السياسية.
وأحياناً يوظف في مواجهة بعض المواقف السلوكية, ففي نظر العلمانيين مثلاً من الصحفيين وغيرهم, الذي يلتزم بالسنة في صلاته وفي لباسه، في تجنبه للمحرمات وفي حجاب زوجته، في سواكه، في تجنبه للربا، في تجنبه للفحش، في تجنبه للغناء هذا يعتبر عندهم محسوباً على المتطرفين, وكثيراًَ ما ترسم الكاركاتيرات في الصحف السافرة عن أصحاب اللحى الطويلة وأصحاب الثياب القصيرة, فكأن هذا عندهم هو رمز التطرف, فمثلاً في جريدة صوت الكويت, لا حياها الله, رسمت في أحد أعدادها رجلاً له لحية كبيرة، وكأنها كيس كبير يحمله, وهذه اللحية مرسومة على شكل مسدسات, إشارة إلى أنه إنسان إرهابي, وفي يده جريدة تعلن اغتيال رئيس المجلس الأعلى في الجزائر بوضياف، وهذا الرجل يقول: اللهم احمنا من الإرهاب، فهذه سخرية؛ وفي عدد آخر من الجريدة نفسها صورت إنساناً كثيف الحاجبين جداً, وشاربه محلوق, ولحيته ضخمة طويلة تصل إلى نصف الساق تقريباً, وثوبه قصير, وفي يده مسبحة, وهذه المسبحة عبارة عن عقود من القنابل, تصوّر! فترتسم في ذهن السذج والبسطاء والمغفلين هذه الصورة بالإرهاب والتطرف والعنف وبرفض الحوار, دون أن يتحدثوا، ودون أن يستخدموا أسلوب النقاش الهادئ العلمي الموضوعي الذي يتحدثون عنه, لكن من خلال صورة بذيئة, غير مؤدبة، وهذا غريب! وبطبيعة الحال فإن الموسومين بما يسمونه بالتطرف لا شك أن منهم من يلتزم بالمظاهر الإسلامية, فيعفي لحيته أو يقصر ثوبه لكننا نعرف الخلفية التي يستخدمها أولئك الصحفيون وهم يتحدثون أو يرسمون, ونحن لا نعرفها من باب الرجم بالغيب فالغيب لله, ولكن نعرفها من مواقف أخرى واتجاهات ومناهج يحاولون أن يجروا كل دعاة الإسلام لتصنيفهم تحت عنوان التطرف! ومن ثم يحذرون المجتمعات من خطورتهم, فمثلاً جريدة الشرق الأوسط ومع الأسف أنها محسوبة على هذه البلاد, تعتبر الجبهة الإسلامية في الجزائر أصوليين متطرفين, وأهل السودان أصوليين متطرفين, وأهل اليمن أصوليين متطرفين, وأهل الأردن أصوليين متطرفين, بل وكثيراً من أهل هذا البلد أصوليين متطرفين, وحزب النهضة في تونس أصوليين متطرفين, في نظر جريدة الشرق الأوسط, ولهذا قال أحد الكاتبين في جريدة المدينة: إن الشرق الأوسط صورت ما يسمى بالجماعات الإسلامية كلها, وكأننا نعيش في غابة من الوحوش! لا هم لها إلا القتل والتفجير والحرب والتدمير وغير ذلك.
وأقول: هذا الوصف الذي أطلقته خضراء الدمن على الجماعات الإسلامية وعلى دعاة الإسلام لم تظفر به كل المجتمعات البشرية, حتى اليهود لم تصف مجتمعاتهم بذلك, بل وصفت مجتمعات اليهود بأن فيها صقوراً وحمائم, وأن فيها معتدلين, وأن فيها منادين للسلام, ولم تصف الصرب الذين دمروا المسلمين في البوسنة والهرسك، لم تصفهم بهذا الوصف قط, ولم تصف الصليبيين في العالم بذلك, ولا الشيعة ولا حزب البعث ولا غيرها.
وقد حشرت في هذا تناقضات تمتد ما بين النواب الأردنيين الذين دخلوا البرلمان الحكومي, والجبهة القومية في السودان, التي يقول " مورفي " وهو مراسل إحدى الصحف الأمريكية في الشرق الأوسط عن أحد زعماء الجبهة في السودان: إنه منظر إسلامي فذ, لكنه أصولي يعرف جيداً كيف يستغل الظروف ويستخدمها لصالحه، وهو قادر على التأقلم مع الواقع, ويرضى بمهادنة الأنظمة بدون أن يتخلى عن مطالبه، ولاحظوا الألفاظ, ثم يقول: إن الترابي -وهو المقصود بالحديث السابق- بدأ يعلم تلاميذه شكلاً آخر من أصولية الإسلام, يمكنهم من التعايش مع الآخرين والتأقلم مع المتغيرات, والتطورات, ويجنبهم العزلة في الوقت الذي يلتزمون بالخطوط العريضة في أفكارهم.
أولاً: لا أحد يستطيع أن يمدح الترابي ولا غيره بأفضل من هذا الكلام, بأنه محافظ على أصوله ومبادئه، ومع ذلك عنده قدرة على التأقلم مع الظروف والمتغيرات ومع الآخرين, وأسلوب الحوار والنقاش الهادف, هذا أولاً.
ثانياً: هذه شهادة من رجل نصراني غربي يحمل في الغالب عداوة النصارى للمسلمين, ومع ذلك وصف الرجل أنه يتأقلم مع الظروف, وأنه يحسن معايشة الأوضاع، فكيف تأتي صحف كالشرق الأوسط أو غيرها, لتصفهم بالتطرف والأصولية.
كما حشرت الشرق التجمع اليمني بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني ضمن المتطرفين, واعتبرت أن التجمعات والمخيمات التربوية العلمية التي تقام في اليمن مراكز لتخريج المتطرفين, وتدريب الإرهابيين, دون أن تقدم على ذلك دليلاً واحداً, ونسيت هذه الجريدة أنها تتكلم عن واقع لا يبعد عنا سوى كيلوا مترات قليلة، وأن التحقق من هذه الأقوال والأخبار أمر ميسور, لكن في حمى العداوة الشخصية والسياسية نسيت كل شيء وأصبحت تتكلم في مثل هذا الأسلوب.
كما شمل هذا اللفظ حزب النهضة التونسي, وهو من أكثر الاتجاهات الإسلامية تسامحاً, بل ورخاوة في أفكاره ومصطلحاته وفي علاقاته.
أما الجماعات الإسلامية في مصر, فحدث ولا حرج, بل حتى المجاهدين الأفغان صنفوا الآن ضمن المتطرفين, وخرجت علينا مطبوعات عدة تحذر منهم, ومن الشباب العربي المسلم العائد من هناك, أصوات تحذر من هؤلاء، لم نسمعها يوماً من الأيام تحذر من الشباب العائد من بانكوك ومن يحمل جرثومة الإيدز, في صحف محلية في هذا البلد, ومع الأسف أن يتورط في هذا الأمر مطبوعات وصحف محلية كان يجب عليها على الأقل أن تجامل العلم وأهل العلم في هذه البلاد التي هي محط أنظار المسلمين في كل مكان.
فمقصودي من هذا الاسترسال أن أقول: إن هذه الصحف وهذه الوجوه لا تتحدث عن فئة بعينها, لا, ولكنها تتذرع بالحديث عن التطرف لشفاء غليلها، والتنفيس عن أحقادها وعداوتها من حملة رسالة الإسلام, حتى ولو كانوا معتدلين، بل حتى لو كانوا مفرطين متساهلين.
وقد يوظف لفظ التطرف أحياناً في مواجهة مواقف سياسية أو سلوكية، وقد يوظف أحياناً في مواقف عقائدية مبدئية, فمثلاً الذي يطلق على النصارى لفظ كفار يعتبر عند بعضهم متطرفاً, والذي يتحدث عن الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية يعتبر متطرفاً, لماذا؟! لأن هؤلاء يقولون الإسلام لم يطبق أبداً, حتى في عهد الخلفاء الراشدين, وهذا كلام فرج فودة , في كتابه: الحقيقة الغائبة، الذي دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب, يقول ما معناه: إن الإسلام حلم وخيال, ولم يطبق على محك الواقع يوماً من الدهر, وذلك فالذين ينادون بالحكم الإسلامي, وتطبيق الشريعة الإسلامية هم من المتطرفين, والذي يدعو إلى مخالفة المشركين في هديهم وسلوكهم وأعمالهم وأعيادهم هو من المتطرفين, والذي ينادي بتصحيح عقائد المسلمين وأحوالهم وأخلاقهم على ضوء الكتاب والسنة هو من المتطرفين, وهو من الذين يدعون إلى الحجر على العقول وتعطيلها.
إحدى الصحف -مثلاً- نشرت أيضاً كاركاتيراً هو عبارة عن صورة لرجل ملتحٍ وضع خده على يده يفكر, فبصر به أحد أقاربه ممن يسمونه بالمتطرفين, فجاء إلى أمير الجماعة -كما يقولون- يقول له: إن فلاناً قد وضع خده على يده -بمعنى أنه قد بدأ يفكر- ومن فكر كفر، فأنا أقترح تصفيته جسدياً -يعني قتله- وهم بذلك يريدون أن يرسلوا إلى القارئ والمشاهد رسالة وهي أن هؤلاء لا يفكرون ويحجرون على العقول, وأنهم يتعاملون دائماً وأبداً مع خصومهم بأسلوب القتل والإرهاب والتصفية الجسدية.