وهناك قضية خامسة أشير إليها، وهي أن بعض الذين ينبذون التقليد ونحن -بلا شك جميعاً- نحمد للإنسان، أن يقدم نصوص الكتاب والسنة على قول فلان وفلان، وكل إنسان في قلبه إيمان يفرح بذلك، لكن قد يترك الإنسان أحياناً تقليد الأئمة المتبوعين الكبار المشهود لهم بالفضل والعلم ويقلد من هو دونه بمراحل، فيكون كمن ترك البحر وذهب ليستقي من السواقي الصغيرة، فعلى الإنسان أن يدرك أن التقليد في كثير من الأحيان، يتسرب إليه بصورة خفية، وقد تجده يسمع قول الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة فلا ينتبه له ولا يهش حين يسمعه، ولكن إذا سمع قول فلان، وخاصة إذا كان من الأئمة والعلماء المعاصرين، فإنه يقوم له ويقدره، ويقدمه على أقوال هؤلاء الأئمة، ولاشك أن الحق -أيضاً- لا يعرف قديماً وحديثاً، فقد يصيب المتأخر وقد يخطئ المتقدم، ونحن نجد أن الإمام في الصلاة يأتي آخر الناس فيتقدم عليهم.
ولا غرابة أنه يوجد اليوم بين المسلمين من العلماء من لم يكن للمسلمين عهد بمثله منذ زمن، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك -مثلاً- لوجدنا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين أو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أو غيرهم من العلماء -وهم بحمد الله كثير- هم أئمة أفذاذ، قد نقول: إنه يندر توفر مثل هؤلاء في وقت وزمان واحد، وأن الله قد امتن على هذه الأمة بوجودهم.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الإنسان الحي تقبل أقواله وآراؤه وتعيش أكثر من الإنسان الميت، ويجد من وسائل الانتشار والتلاميذ الذين تلقوا عنه وأعجبوا بشخصيته وقوته وجر أته في الحق وفضله، من يغلب هذا عليهم فتصبح أقوال هذا الإمام عنده مقدمة، وهذا أمر قد يكون طبيعياً في بعض الأحيان، لكن على الإنسان ألا ينسى أنه إذا كان يحارب التقليد، فحينئذ عليه ألا يترك أو يحارب تقليد إمام متقدم ليقلد إماماً متأخراً، بل يأخذ الحق ممن جاء به.