ثم أنتقل إلى القضية الثانية، وهي الحديث عن موضوع الاجتهاد والتقليد، وهي قضية طويلة، وأقول بصورة موجزة: إن الناس فيها طرفان ووسط، فهناك طرف يقول: لا يجوز تقليد أحد من العلماء بحال من الأحوال، ويتزعم هذا القول الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله، حيث يقول في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: التقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء في خدرها، والراعي في شعب الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر بلا فرق، فهو يرى أن الأعرابي الراعي في غنمه، أو العبد المجلوب أو الفتاه العذراء التي لم تتلق شيئاً من العلم؛ هم والعالم على حد سواء يجب أن يجتهدوا ولا يقلدوا أحداً! وهذا القول واضح البطلان، ويكفى تصوره في إبطاله، لأنك لو تصورت المسلمين اليوم وهم كما تقول الإحصائيات، يربو عددهم على ثمانمائة مليون مثلاً، ولنفترض أنهم يمثلون عشر هذا العدد أو أقل، سيوجد عندنا ثمانمائة مليون عقل تجتهد في قضيه واحدة، فكم فسيوجد من الاجتهادات والشذوذات والانحرافات والمخالفات والفوضى التي لا أول لها ولا آخر، ثم ما قيمة العالم إذن إذا كان مطلوب من كل إنسان أن يجتهد؟ فما قيمة العالم المتميز بمعرفة الدليل، والحديث الصحيح، والحديث الضعيف إلى آَخره؟ ولنفترض -مثلاً- أن واحداً أو أكثر من هؤلاء الذين قلت: إنهم يجب عليهم أن يجتهدوا وألا يقلدوا أحداً، لنفترض أن منهم من قال: أنا اجتهدت، فوصل اجتهادي إلى نتيجة، وهي وجوب التقليد لي ومن كان على شاكلتي! فما موقفك حينئذ؟ فهو اجتهاد أمرت به فوصل إلى هذه النتيجة بطريقة صحيحة، وهذا يدل على فساد هذا القول.
وهناك طرف آخر مقابل له، يقول: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجتهد في مسألة جزئية ولا غيرها، بل عليه أن يقلد إماماً من الأئمة، وألا يخرج عن قوله أبداً، وهذا القول -أيضاً- قول مرجوح لا دليل عليه، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة، فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ولا يسألنا ماذا أجبتم فلاناً أو فلاناً؟ بل يسألنا ماذا أجبتم المرسلين؟ والقول الوسط في قضية الاجتهاد والتقليد، يتلخص في النقاط التالية:-