إن المتصدقين كثير، والمستجيبين لهذا النداء الرباني مِنْ فَجْرِ هذه الأمة، ومن فجر الإسلام إلى يومنا هذا هم جمعٌ غفيرٌ.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما تصدق مرة: {يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله} .
وهذا عثمان يجهز جيش العسرة فيخرج نوقاً بأحلاسها وأقتابها فيقول له صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} .
وهذا طلحة بن عبيد الله كان يُسمَّى طلحة الفياض، فهو أيضاً متصدق، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث فيها ضعفٌ بأنه طلحة الفياض، يوماً من الأيام نام طلحة رضي الله عنه وأرضاه عند زوجته وهي من نساء المؤمنين الفضليات، فتقلب على فراشه، فقالت له: [[يا طلحة ما بك؟ هل أنت شاك في أهلك، أو رابك منهم شيء؟ قال: كلا، فنعم حليلة الرجل المسلم أنتِ، قالت: فما بك؟ قال: أموال جاءتني من الشام، وكانت تعد بمئات الألوف، فقالت: فأين أنت من فقراء المهاجرين والأنصار؟ فأثنى عليها خيراً، ودعا لها، ثم جاء بالأواني، فملأها من الذهب والفضة وفرقها، فلم يصبح عنده شيء إلا أقل القليل، فلما أصبح، قالت له زوجته: لقد أعطيت الناس، فأين نحن من هذا المال؟ قال: لماذا لم تذكريني؟ فنظروا ما بقي، فإذا هو ألف دينار، فأعطاه زوجته]] وجاءه يوماً من الأيام رجل، فسأله برحم، فقال: [[والله إن هذه رحم ما سألني بها أحدٌ قبلك، هذه أرضٌ عندي قد سامها مني عثمان رضي الله عنه وأرضاه بثلاثمائة ألف دينار، فإن شئت أخذتها، وإن شئت أبيعها لك، ولك الثمن، فقال الأعرابي: لا، أريد الثمن، فباعها على عثمان، وأعطاه الثمن كاملاً غير منقوص]] .
وهذا فياض آخر هو نور الدين، وفي قصته عجبٌ أي عجب، فهو صاحب الشام، الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الأتابك ليث الإسلام البطل الهمام، وقصصه كثيرة، وأمره عجيب، ولعلك أن تراجع سيرته، لكنني أطل على شيء يسير منها.
كان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، -وهو ملك من ملوك المسلمين- ومرة سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطيور.
ماذا كان خبره؟ يقول الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده ينسخ تارة- هذا ملك يكتب بيده ليبيع الكتب- ويعمل أغلافاً -أغلفة للكتب- تارة أخرى، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل من أحسن أهل زمانه.
قال ابن الأثير: كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، طلبت منه زوجته مالاً، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فكأنها استقلتها -رأت أنها قليلة- فقال لها: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي من أموال المسلمين إنما أنا خازنه.
وكان كثير التهجد، كثير العبادة، مخاطراً بنفسه في ذات الله تعالى، قال له قطب الدين النيسابوري يوماً من الأيام: بالله عليك يا أمير ألا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة، لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومن أنا؟ من هو محمود حتى يقال فيه مثل هذا الكلام؟ حفظ الله البلاد قبلي فلا إله إلا هو.
وكان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق كما يقول الذهبي، وكان لهذا الرجل مجموعة من الأعمال خاصة في آخر عمره حيث أكثر من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط كل ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية على أهل الكتاب والخراج والعشر، وكتب في ذلك إلى جميع البلاد.
وكان له رسم بنفقه خاصة في الشهر -من الجزية- يسيره.
قال السبط ابن الجوزي: كانت له عجائب، وكان يخيط الكوافي ويعمل السكاكر، فيبعنها له سراً ويفطر وهو صائم على ثمنها، ويتصدق على الأرامل والأيتام والفقراء والمساكين.
ومما يتعلق بذلك وهي فائدة ربما لا يكون لها علاقة بالموضوع، لكن للفائدة أن السبط ابن الجوزي ذكر أيضاً في تاريخ مرآة الزمان، قال: حكى لي نجم الدين بن سلار عن والده أن الفرنج لما نزلوا على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف، وكاد أن يتلف، وكان مهيباً ما يقدر أحد أن يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى، لبعض جلسائه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا يحيى بشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقال الإمام يحيى: يا رسول الله، ربما لا يصدقني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل له بعلامة يوم حارم، وانتبه يحيى من نومه.
فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو الله تعالى هابه الإمام أن يكلمه، فقال له نور الدين: يا يحيى تحدثني أنت، أو أحدثك أنا، فارتعد يحيى، وأعجم فلم يستطع الكلام، فقال له نور الدين: أنا أحدثك: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقال لك: كذا وكذا وكذا، قال يحيى: نعم.
قال له يحيى: فبالله ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم -ما هي هذه العلامة؟ - قال نور الدين: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت ونزلت من فرسي، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود الكلب؟! الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك- يخاطب رب العالمين- قال: فنصرنا الله تعالى عليهم، فهذا يوم حارم.
فهذه نماذج سريعة من المتصدقين الكرماء الأجواد، ولا يعني ذلك أن الزمان قد انقضى عن أمثال هؤلاء، فهناك نماذج معاصرة كثيرة، وهناك رجال يتبرعون بعشرات الملايين، ويرى أحدهم أنه ما أخرج شيئاً في سبيل الله عز وجل، بل يدري أن ذلك بعض حق الله تعالى عليه في المال، أما الأغنياء، فكثير منهم على هذه الشاكلة يتصدقون وينفقون سراً وجهراً في سبيل الله عز وجل، ولا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى، فجزاهم الله خيراً، وأوسع الله لهم في أرزاقهم، وحتى الفقراء والمعوزون يتصدقون بالكثير، ولعلي ربما ذكرت لكم أمثلة كثيرة لا مانع أن أذكرها الآن للمناسبة.
فهذه أرملة ذكرت خبرها جريدة الأنباء الكويتية تبرعت عن طريق جمعية إحياء التراث بقطعة ذهب صغيرة ربما لا تعادل خمسين ريالاً، فاشتراها أحد التجار بخمسة آلاف دينار كويتي، وتبرع بهذا المال لأعمال الخير.
وصاحب الغترة -وما خبره عنكم ببعيد- لم يجد ما يتصدق به إلا غترته، فخلعها وتصدق بها فاشتريت بآلاف الريالات.
وثالث تبرع بدمه في أحد المستشفيات، وأخذ هدية من المستشفى مقابل التبرع، فتبرع بها للبوسنة، وهو يقول: إذا لم نستطع أن نريق دماءنا في أرض المسلمين والإسلام هناك، فالأقل أن نتبرع بحقنة من دمنا لإخواننا المسلمين.
وهذا طفل رابع يجمع التبرعات للمسلمين في الصومال والبوسنة، ولإطعام جائع، ولتفطير صائم، ولكسوة عاري، وقد سماه بعد الظرفاء شاحت للإسلام، وهذا الطفل قلَّ شهر أو أسبوع إلا ويأتيني بمبالغ قد تصل -أحياناً- إلى آلاف الريالات جمعها من قرش وريال وخمسة وعشرة.
وهناك أخوات موفقات وإخوة موفقون من المدينة والرياض والخبر وجدة والقصيم وبعض دول الخليج قد تجمع المرأة من الأخوات الكريمات من راتبها وراتب زميلاتها في العمل مبلغاً طيباً، وتبعث به إلى مشروع هنا، أو مشروع هناك.
ومن الطرائف المضحكة أن طفلاً صغيراً أعطى أحد الإخوة الشباب ريالين، وقال له: خذ هذه الريالين أحدهما للبوسنة والآخر للهرسك، وآخر نسي كلمة البوسنة والهرسك فلم يحفظها، فدفع عشرة ريالات، وقال: هذه للأوس والخزرج.