النقطة الثانية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
ونحن -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- بقدر ما ننتقد تلك الفتاة التي تحولت إلى تمثال من الشمع سرعان ما يذوب، همها القماش الذي تلبسه، وقيمتها في ثوبها، بقدر ما ننتقد تلك الفتاة، فنحن ندعو الفتاة المسلمة الملتزمة أن تكون على قدرٍ من العناية بجمالها وثيابها ونظافتها وترتيب أمورها، وهي ناحية فطرية غريزية لا ينبغي أن نجور عليها بحالٍ من الأحوال، وكما أن الأولى ظاهرة سلبية موجودة، فالثانية أيضاً ظاهرة سلبية موجودة عند بعض الفتيات.
لذلك استغرب سلمان الفارسي -كما في صحيح البخاري- لما رأى أم الدرداء متبذلة!! وكانا أخوين، فلما رآها سلمان الفارسي قال: {يا أم الدرداء مالي أراك متبذلة؟ -ملابسك ليست ملابس امرأة متزوجة- قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له همة في الدنيا، بالنهار صائم وبالليل قائم!! فلما جاء أبو الدرداء وأراد أن يقوم، قال له سلمان: نم، فنام، وبعد قليل أراد أن يقوم فجاءه سلمان، وقال: نم، فنام، وبعد قليل جاءه فقال: نم، فنام، فلما بقي من الليل جزء، قال: قم الآن فصل، ثم قال له: إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه} وهذا حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فلماذا استغرب سلمان الفارسي من هيئة أم الدرداء، وكونها متبذلة في ملابسها؟ لأنها امرأة متزوجة، والمفروض أن يكون عندها قدر من العناية بزوجها وبملابسها، وبمظهرها، حتى تلفت نظر زوجها وتعفه عن النظر إلى الأخريات، ولذلك استغرب لما لم يجد هذا.
والحديث الآخر، حديث عائشة رضي الله عنها تقول: {دخلت عليَّ خويلة بنت حكيم بن أمية، وكانت عند عثمان بن مظعون -زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها -ملابسها غير جيدة وغير ملائمة- فقال لي: يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة! -غريبة ملابسها- قالت: فقلت: يا رسول الله! امرأةٌ لها زوجٌ يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله وسلم إلى عثمان بن مظعون، فجاءه فقال: يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قالت: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليكَ حقَّاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم} والحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، وغيره، وله شواهد منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد في آخره قال: {فأتتهمُ المرأة بعد ذلك -ولاحظ هنا دقة امتثال الصحابيات لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته- فأتتهم المرأة بعد ذلك، كأنها عروس -أي متزينة متجملة مهتمة بمظهرها بما فيه الكفاية- فقيلَ لها: مه!! - تعجبت عائشة رضي الله عنها فالوضع قد تغير قالت لها عائشة: مه، -أي ما الخبر؟ - قالت: أصابنا ما أصاب الناس} أي: عادت الأمور إلى مجاريها، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن حبان، وقد روى البخاري أيضاً الحديث الذي أسلفته، وهو بمعنى هذا الحديث فهو شاهد له.
إذاً قضية الاهتمام بالثياب وبالجمال أمرٌ فطري عند الرجل والمرأة لا يلام عليه، وخاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، فكون بعض الفتيات يظهر منها قدرٌ من عدم العناية بشعرها ومشطه وتسريحه ودهنه وتزيينه، أو عدم العناية بمظهرها وثيابها وترتيبها وجمالها، هذا أمرٌ تلام عليه، وربما يكون أحياناً هذا التواضع والتقشف سبباً في إعراض بعض الفتيات عن مجالس الذكر وحلق العلم والوعظ؛ لأن تلك الفتاة ذات العناية بملبسها تظن أن حضورها في المجالس ومشاركة الأخريات فيه، يقتضي إهمال ذلك الجانب الذي تعتني به هي أو إغفاله، أو تظن أنها سوف تصبح في محل النقد والاستغراب من الفتيات الملتزمات، فهو يحول بين الأخريات وبين الالتزام.
وعناية الفتاة الداعية بمظهرها هي البوابة الضرورية للوصول إلى قلوب الأخريات، دون أن تخرج عن حدود اللباس الشرعي، فهي قدوة، ولا ينبغي أن تعمل شيئاً يكون في موضع النقد، أو يقلدها فيه الآخرون.
وهذه المرأة الداعية مع هذا وذاك هي امرأة لها زوج، أو سيكون لها زوج، فيجب أن يرى فيها من الجمال والعناية به ما يغض بصره ويعفه عن النظر الحرام، وهذه من جوانب العظمة في الإسلام، حتى تكلم عنها الغربيون، وأعجبوا بها أيما إعجاب، كما سوف أتحدث في حلقة قادمة إن شاء الله، فإن الإسلام يربط الدنيا بالآخرة كنسيجٍ واحد، فحتى المرأة وهي تتجمل لزوجها، هي بهذا العمل تتقرب إلى الله تعالى، وتقرب من الجنة.
فالإسلام لا يستقذر أو يعيب مثل هذه النظافة، أو مثل ذلك الجمال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} .