احتمالات مآل صراع الحضارات

فهناك صراع حضاري منوع في كل المجالات.

صراع فكري، صراع ديني وعقائدي، صراع علمي، صراع سياسي، صراع اقتصادي، صراع حضاري شمولي.

وأمام هذا الصراع هناك عدة احتمالات: الاحتمال الأول: هو تغريب العالم: أي تحويل العالم إلى عالم تابع للغرب مسلم بنظريات الغرب، وقيمه، وأخلاقياته، وحضارته، وهذا غير ممكن ولا وارد.

الاحتمال الثاني: هو الصدام الحضاري، الصدام بين الحضارات والمواجهة بينها، وهو ما توقعه المؤلف وذهب إليه.

الاحتمال الثالث: هو -كما قال المؤلف- انتصار قيم التسامح الثقافي والحوار بين الحضارات، والمبادئ المشتركة التي تجمع الأمم كلها، وهذا الأمر مستبعد جداً.

فالمؤلف رجح ورشح أنه سيكون هناك صراع بين الحضارات، وهذا المؤلف وضع نفسه في الخندق الغربي، لأنه رجل أمريكي يقول -كما قال الذي قبله فوكوياما يقول: أنا أمريكي (100%) وإن كنت من أصل ياباني إلا أنني لا أعاني من عقدة ازدواجية الانتماء فأنا أمريكي (100%) وهو يقدم أمريكا، بل يقول: إنني أشعر أنني سوف أقدم دوراً عظيماً لأمريكا وقد يكون هذا الدور في البيت الأبيض -هكذا يقول فوكوياما - ومثله أيضاً هنتجتون فهو يقول مثل ذلك، ويضع نفسه في الخندق الغربي.

ثم يقول: يجب أن نرص الصفوف الغربية أمام التحدي الإسلامي والتحدي الصيني، ويجب أن نطور نوعاً من الوحدة بين أمريكا وأوروبا، ويجب إيجاد علاقة تعاون على أقل تقدير بين أمريكا وروسيا، بين أمريكا واليابان، يجب ألا نذهب بعيداً في تخفيض القدرة العسكرية الغربية.

وهذه الأشياء الذي يطالب بها، لأنه يقول: إن هناك عدواً منتظراً استعدوا له، كيف يستعدون له؟ وحدوا صفوفكم، وتعاونوا مع أصدقائكم الآخرين، لا تخفضوا أسلحتكم كثيراً، ولا تذهبوا بعيداً في ذلك لأنكم سوف تحتاجونها.

فانظر إلى الوعي والعمق والإدراك والتخطيط للمستقبل وأنت حين تأتي للمسلمين تجد أنهم على رغم الضعف، والذلة، والقلة، والتأخر إلا أن الخلافات الشرسة تعصف بهم فلا تبقي أحداً مع أحد، وإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان! وهذا الكتاب: صدام الحضارت قد يكون ردة فعل للمد الأصولي العالمي، والتوجهات الدينية الموجودة في الإسلام، وفي بقية الديانات الأخرى، وكأنه يدعو أمريكا إلى أن تعتصم بمعطياتها، وخصائصها في مواجهة قوم مسلمين يؤمنون بدين، وينتمون إليه انتماءً عريقاً.

كما أن هذا الكتاب يتحدث ويكشف حرج القوى الغربية -أمريكا وغيرها- إزاء ما يسمونه بالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، فهو يقول لك: إن الديمقراطية مع أنها هي البديل الذي يقدمه الغرب، وهي الشيء الذي يتحدثون عنه، وهي دين الغرب، وعقيدته، ومنهجه، وسياسته إلا أنهم يقولون لك: إن الديمقراطية خطر في العالم العربي والإسلامي.

وذلك لأن الديمقراطية الحقيقية لو طبقت في العالم العربي والإسلامي فسوف تدعم قوى معادية للغرب، على نمط ما حصل في الجزائر، والأردن، واليمن، وما يمكن أن يجري في مصر وأي بلد آخر، أي أنها سوف تدعم التوجهات الأصولية التي تكتسح الشارع العربي والإسلامي، وبالمقابل فإن رفض الديمقراطية في العالم الإسلامي سوف يكرس التذمر، والتوتر، والقلق الاجتماعي والسياسي، ويجعل الرفض والغضب الشعبي يزداد ويتفاقم يوماً بعد يوم.

إن هذا الطرح -طرح الصراع الحضاري- هو طرح معقول في نظري في الجملة، وإن كان هذا الطرح مقلقاً للعلمانيين لأنه يقتضي الاعتصام بالدين، وسوف يجعل كل أمة تعود إلى دينها، وإلى عقيدتها، وإلى تراثها الصحيح تعتصم به أمام من يحاربونها بدين مختلف، وعقيدة مختلفة، وتراث متغير، وأمور وخصائص تاريخية مميزة.

ولذلك يقول البعض: إذا صح هذا التوقع في صدام الحضارات فإن النصر في جميع الديانات، وفي جميع الأمم، وفي جميع الدول، سوف يكون لأكثر التيارات تشدداً وانغلاقاً في جميع الحضارات، وسوف يكون النصر بالنسبة للمسلمين -مثلاً- حليف من يسمونها بالتيارات الأصولية التي تدعو إلى رجعة صادقة وكاملة إلى الدين في جميع ميادين الحياة.

ومثل ذلك في الديانات الأخرى، فالنصرانية -مثلاً- سوف يكون النصر للتيارات الأصولية المتشددة فيها، والهندوس سوف يكون النصر للتيارات الهندوكية المتشددة التي تؤمن بالحديد والنار في مقاومة خصومها وأعدائها، ومثل ذلك بالنسبة لليهود أو غيرهم، وخاصة إذا كانت تلك التيارات تملك قوة الاستقطاب والتأثير في الجماهير.

فهذه ثلاثة توقعات يمكن أن يتم من خلالها سقوط الحضارة الغربية، وبالجملة فهناك قائمة طويلة جداً من الأمراض الفتاكة المزمنة التي تنخر في الجسم الغربي عامة، والجسم الأمريكي خاصة.

وهناك على سبيل المثال: الأمن واختلال الأمن، فساد الأسرة وتفككها، ضياع الشباب ومشكلاتهم، الإجهاض وهو قضية خطيرة، المخدرات وانتشارها وعصاباتها، الشذوذ الأخلاقي والجنسي، الفقر المدقع في تلك الدول الغنية حتى إنك تجد أنه عام (1978م) كان عدد الفقراء الذين لا يجدون قوت اليوم -دون مستوى الفقر المعدم- ثلاثمائة مليون إنسان فقط، وبعد عشر سنوات تحول هذا الرقم إلى كم؟! هل تتوقع أنه انخفض؟! كلا، بل ارتفع إلى مليارين من الناس، مليارا إنسان يعيشون دون مستوى الحياة الإنسانية العادية من شدة الفقر، حتى في أرقى المدن الغربية والأمريكية ينامون على الأرصفة ويأخذون أطعمتهم من صناديق القمامة، وقد رأيت بعيني مثل هذه المشاهد، وهم يعدون في بعض الولايات بالملايين.

البطالة: وانتشار معدلات البطالة وارتفاعها في أمريكا وغيرها.

عصابات الإجرام: كالمافيا وغيرها، وهي عصابات خطيرة للخطف، وللسرقة، وللقتل، وللاغتيال، ولتعاطي وبيع كل الأشياء بلا استثناء.

الديون الفردية: كل الأفراد مدينون في أمريكا، والديون الفردية تزيد الآن على (4.

4 تريليون دولار) على أفراد الشعوب الأمريكية! فكل فرد مدين وهو يقضي حياته كلها في تسديد الديون: دين للسيارة، دين للبيت، دين للزواج، دين لكل شيء، وهذا أمر خطير بدأ يتسرب أيضاً للبلاد الإسلامية.

التعليم وانهياره: حتى إن هناك كتابا ًانتشر ودرس، عنوانه: أمة معرضة للخطر -أظن أني سبق أن تحدثت عنه- يتكلم عن انهيار التعليم في أمريكا.

الإعلام وخطره أيضاً، التجسس على الأفراد، أو على الدول، أو على المؤسسات، والتجسس المضاد أيضاً.

النعرات العنصرية في أمريكا، والصدام بين البيض والسود مثلاً، وقد حدثت كما تعرفون أحداث كثيرة من هذا القبيل في العام الماضي، وراح ضحيتها عشرات الأفراد، ومليارات من الأموال.

تلوث البيئة: وهو أحد الأمراض الخطيرة، الأمراض الفتاكة كما أسلفت، الفشل السياسي والفضائح الكثيرة التي تلاحق البيت الأبيض وتلاحق جميع مراكز الإدارة والسياسية في فرنسا، وفي إيطاليا، وفي بريطانيا، وفي ألمانيا، وفي غيرها.

وعلى سبيل المثال: هناك عشرات بل مئات المقالات موجودة عندي تتحدث فقط عن الفشل السياسي في أمريكا، ومشكلات داخل البيت الأبيض، وقضايا تتعلق بشخص الرئيس هناك، وفضائح عن ذاته، وعن علاقاته، وعن إخوانه، وأخواته، ومن الذي سجن بالمخدرات، ومن الذي سجن بالسرقة، ومن ومن، وبعض القضايا المتعلقة به، وأشياء شخصية تدل على أن هناك -فعلاً- إخفاقات كثيرة، وفشلاً في الإدارة، وتأخراً في الإنتاجية.

أيضاً الفضائح التي تلاحق الإيطاليين اليوم، يومياً فضائح تكشف عن رجال الحكم هناك، وكثير من رجال السياسة هناك لم يعودوا لامعين لشعوبهم بما فيه الكفاية.

فهذه قائمة طويلة، وعندي فيها معلومات كثيرة لعل جلسة خاصة -إن شاء الله- تخصص لمثل هذه الأمور، لأنها لا تخلو أيضاً من عبرة، وطرافة في بعض الأحيان، وبغض النظر عن هذا كله إلا أن الجميع يتفقون على وجود صعوبات جمة تنتظر المسيرة الغربية عامة، وتنتظر المسيرة الأمريكية على وجه الخصوص.

ولقد كنا في يوم من الأيام نقرأ كلاماً كهذا عن انهيار الحضارة الغربية، وأذكر أنه وقع في يدي كتاب للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى اسمه: المستقبل لهذا الدين، فقرأت فيه فصلاً بعنوان: انتهى دور الرجل الأبيض، وهو يتكلم كلاماً شبيهاً بهذا، عن أن دور الغربيين قد انتهى، وجاء دور المسلمين الذين يجب أن يحملوا ويقدموا للعالم الحل، فكنا نعلم أن ذلك حق، ولكن الإنسان يراوده شيء مما يرى من هيمنة الغرب، ومما يسمعه من المستغربين الذين كانوا يعدون هذا الكلام أضحوكة يسخرون بها ويتلهون بها، بل حتى الصالحون داخلتهم الظنون في ذلك، وصار إيمانهم أحياناً نظرياً، فهم يقولون نعم صحيح ولكن! إذاً: عندهم شك ويتوقعون أن العالم الغربي سيظل مهيمناً لفترة طويلة غير منظورة، حتى المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله وهو مفكر عميق، واجتماعي متخصص، إلا أنه مع ذلك كان يميل إلى القول بخلود الحضارة الغربية وأبديتها في الدنيا، ثم تراجع عن ذلك وأعلن خلافه.

ونحن إذاً نفرح ونسر لكل حديث عن سقوط أمريكا أو الحضارة الغربية، لأننا وإن جاءنا بعض إنتاجها، وبعض تيسيراتها المادية والحضارية، إلا أنها أصلتنا بنارها في مجتمعاتنا وأممنا، فنحن وإن كنا كأفراد في نعمة، إلا أننا كأمة في خطر، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى الناحية المادية، أو الأنانية، أو الفردية فحسب، وأردد وترددون مع الشاعر هذا الأبيات: أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي هذي الحياة ويوضع الميزان أنا ضدها حتى وإن رقَّ الحصى يوماً وسال الجلمد الصوان بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمت بعضه لأنهارت الأكوان هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان من غيرها زرع الطغاة بأرضنا ومن ذا سواها أكبر الطغيانا حبكت فصول المسرحية حبكة يعيا به المتمرس الفنان هذا يكر وذا يفر وذا بهذا يستجير ويبدأ الغليان حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرح وحل محله سرطان وإذا ذئاب الغرب راعية لنا وإذا جميع رجالنا خرفان وإذا بأصنام الأجانب قد ربت وبلادنا ورجالها القربان إذاً: لا نلام حينما نبغض هذا الصنم الذي مارس ألوان التسلط على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

أيها الأحبة: إن سنة التغيير قطعية، والتاريخ ما توقف لغير فوكوياما حتى يتوقف له، أما الشرع ف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015