أصناف الأعمال الماضية

وأعمالنا التي عملناها في الماضي لا تتعدى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها، يقول الشاعر لولده: إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فاللذة ذهبت، لكن بقي الإثم ينتظره الإنسان يوم يلقى ربه، موفوراً في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبقيت -أيضاً- آلام المعصية يقاسيها الإنسان في الدنيا، وآلام المعصية كثيرة، منها: ألم في القلب على مخالفة أمر الرب جل وعلا.

ومنها: ألم قد يجده الإنسان في الواقع؛ فإن المعصية يتبعها ذل وفضيحة وعقاب؛ إما بالضرب في السجن والتوبيخ، أو بالقتل أو بغير ذلك من العقوبات، فبقيت آلام المعصية وعقوباتها الدنيوية والأخروية وذهبت لذتها حتى كأن لم تكن.

الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] ويكفي من سرور الطاعة ما يحس به الإنسان من الانتصار على الهوى والشهوة وطاعة الله عز وجل، فيورث الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بين ذل المعصية وعز الطاعة.

يقول بعض الصالحين: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب.

ويقول رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

وهو يعني بذلك: السرور بمناجاة الله تعالى والقرب منه ودعائه وذكره واستغفاره، فيكفي هذا من ثمرة الطاعة.

الصنف الثالث من أعمالنا التي عملناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة.

قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} رواه مسلم.

ومن هذه الأعمال الدنيوية مالا حاجة للإنسان به، فوا عجباً من إنسان يكدح ليله ونهاره في جمع أموالٍ، يعلم أنه لو أكل بكل ما يستطيع وأنفق بكل ما يستطيع لم يكد يأتي على آخرها! فهل كل هذا الجهد الذي يبذله الإنسان حباً في أولاده من بعده، حتى أصبح حب أولاده وورثته من بعده أشد وأعظم من حبه لنفسه؟! كلا! والله ليس الأمر كذلك، بل إننا نجد ممن يجهدون في جمع الأموال من يكون الواحد منهم عقيماً لا وارث له.

ومن الغرائب والعجائب التي نسمعها من أخبار الأمم الكافرة: أن امرأة غنية ثرية ماتت في أمريكا أو غيرها، وخلفت وراءها أموالاً طائلة هائلة، فلما فتحوا وصيتها وجدوا أنها قد أوصت بهذه الأموال الطائلة إلى قطتها الأثيرة الحبيبة لديها، ووالله إنك تنظر في حال كثير من كبار الأثرياء والأغنياء الذين وسع الله عليهم بالمال، فلا تجد لهم فضلاً إلا فضل الشهادة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فالعقول متقاربة، فإن هذا الإنسان الذي يجمع الأموال الطائلة ويبخل بها حتى على نفسه لا عقل له، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] .

فواعجباً ممن يتعب في جمع هذه الأموال، ويقضي فيها ليله ونهاره، مع أنه يرى أن هذه الأيام والليالي كل يوم تنقله مرحلة إلى القبر وتقربه منه، وتبعده عن العمل الصالح وتحول بينه وبينه، ثم واعجباً من ذلك!! هذا فضلاً عما يفعله كثيرٌ من أولئك من ارتكاب الحرام في جمع الأموال وجمع الحطام؛ من أكل الربا وأكل أموال اليتامى، ومن الغش والخيانة والزور والكذب إلى غير ذلك من الوسائل، وليس الكلام فقط عن أصحاب الأموال، بل أنت تجد مثل ذلك في أصحاب الوظائف الذين يتوسلون إلى الوصول إلى المناصب بكافة الوسائل المحرمة، وفي أصحاب الدنيا بأصنافهم وألوانهم.

فلا بد -أيها الإخوة- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسم الدنيا إلى قرون، وقسم القرن إلى سنين، وقسم السنين إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر الإنسان أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف، فيأتي الإنسان مناسبة شهر رمضان ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة أيام الحج والعشر، ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة بداية العام وشهر المحرم، ثم إذا خرج جاءته مناسبة وهكذا، حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ويأخذ من يومه لأمسه، كما قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: إذا فات الإنسان عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فات الإنسان عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار.

وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] ، ويقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12] وهي القمر {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة} [الإسراء:12] وهي الشمس: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] .

فإن من الحكمة في تقسيم السنين والشهور والأيام: معرفة الحوادث وعدد السنين والحساب، وابتغاء الفضل من الله عز وجل، وتذكر ما مضى، وأن يعي العاقل فيستدرك، ويأخذ مما بقي لما مضى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015