الإيثار بالقرب

وفي صفحة [505] ذكر مسألة الإيثار بالقُرَبِ، وهي مسألة كثيراً ما يذكر الفقهاء فيها أنه: لا إيثار في القُرَبِ، فقال: المصنف رحمه الله ومنها: كمال محبة الصديق له -أي للرسول صلى الله عليه وسلم- وقصده التقرب إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب؛ لا يصح وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره.

ومن تأمل سيرة الصحابة، وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها، تفريحاً لأخيه المسلم وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها؛ وعلى هذا: فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به، ويتيمم هو إذا كان لابد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطهر بالتراب؛ ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا أشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه واستسلم للموت؛ كان ذلك جائزاً، ولم يُقل: إنه قاتلٌ لنفسه، ولا إنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها " وللشيخ كلام طويل في الإيثار بالقرب في غير هذا الموضع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015