في صفحة [109] ذكر المصنف، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ أم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان، القرشية، قال: تزوجها وهي ببلاد الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك وماتت أيام أخيها معاوية هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لـ خديجة بمكة، ولـ حفصة بالمدينة، ولصفية بعد خيبر -يعني: في الوضوح- قال وأما حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {أسألك ثلاثاً، فأعطاه إياهن، منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها} -والحديث في صحيح مسلم، وفيه بقية الثلاث، الأولى كما سبق تزوج أم حبيبة - والثانية: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، والثالثة: تُأمرني فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فيقول: "هذا الحديث غلط، لا خفاء به" هذا يقوله ابن القيم رحمه الله ويقول: "قال أبو محمد بن حزم وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار " تعرفون عكرمة بن عمار!! لكن ابن حزم -غفر الله له- رماه بهذه المسألة ورماه بالكذب، فقال: كذبه عكرمة بن عمار، ولا شك أن هذا غلط من ابن حزم، غفر الله لنا وله.
يقول ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار إلى قول ابن القيم رحمه الله وقد أكثر الناس في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح -لهذا الحديث قال-: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان، قالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء.
وقالت طائفة ومنهم البيهقي والمنذري: يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يأمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً -لأن هذا كله ورد في الحديث- قالوا: لعل هاتين المسألتين وقعتا بعد الفتح، فجمع الرواي ذلك كله في حديث واحد.
ثم ذكر أجوبة كثيرة، وفي آخرها قال: وقالت طائفة: بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، أي على أبي سفيان - فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هل لك في أختي بنت أبي سفيان: {قال: أفعل ماذا؟ قالت تنكحها، قال: أوتحبين ذلك؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: فإنها لا تحل لي} فهذه هي التي عرضها أبو سفيان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب، أنه أعطاه ما يجوز إعطائه مما سأل، والله أعلم.