في صفحة [424] ذكر المصنف كلاماً نفيساً عجيباً في نقد بعض طرائق الوعاظ، الذين يبالغون في تخويف الناس من موضوع الموت، ويغفلون عما هو أهم منه، وهو كلام ينبغي أن يكتب بماء الذهب! وأن يطلع عليه كل داعية وواعظ، حتى يعرف الأسلوب المناسب في الوعظ، والموضوعات المهمة.
وهذا الكلام أقرؤه وإن كان فيه طولاً، لأنه كلام لذيذ جداً، يقول: وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه وذكر الجنة النار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه؛ لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراًَ بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون، ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي أيمان حصل بهذا؟! وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟! ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره؛ ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، قال: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها انتهى كلامه.
وهذا صحيح، يعني أنه أصبحت خطب كثير من الناس فيها سجع وترتيب وتغنٍ بالقراءة، واعتقدوا أن هذه سنن لا يجوز الإخلال بها، وغفلوا عن المعنى الذي هو المقصود من الخطبة، باختيار الموضوعات المهمة، وتحريك قلوب الناس بها.